مستقبل التنسيق التركي-الروسي في ليبيا بعد فوز بايدن

531

شهد الصراع على الساحة الليبية خلال عام 2020 تحوّلاً جوهرياً على صعيد خريطة النفوذين الدولي والإقليمي، حيث أصبحت تركيا الداعم والمسيطر على القرارين العسكري والسياسي لحكومة الوفاق والمعسكر المؤيد لها، وفي المقابل تصاعَدَ النفوذ الروسي بشكل غير مسبوق لدى معسكر شرق البلاد.

ترافق التنامي الكبير في نفوذ البلدين مع ارتفاع وتيرة التنسيق المتبادل بينهما؛ فعلى الرغم من الإخفاق في تمرير اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم برعاية الرئيسين الروسي والتركي في موسكو، في يناير 2020، إلا أن مستويات وآليات التنسيق المتبادل بينهما شهدت زيادة كبيرة بعد ذلك، على مستوى كل من رئاسة الدولة ووزارتي الخارجية والدفاع، وهو ما تمثل في العديد من الاجتماعات والبيانات المشتركة في هذا الخصوص على مدار العام. وإجمالاً، فقد صارت هذه الثنائية هي المتحكم في المسار العسكري (على الأقل خلال النصف الأول من العام)، مع تزايد تأثيرها على المسار السياسي كذلك.

في ضوء التوجهات المعلنة لدى إدارة الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن بشأن سياسته الخارجية، تسود تكهّنات حول سياسات ومواقف مناوئة، يُرجَّح أن تتخذها إدارته، إزاء كل من روسيا وتركيا في عدد من الملفات؛ ما يثير التساؤلات حول موقع الصراع الليبي في تلك المواقف المرتقبة للإدارة الجديدة تجاه البلدين.

دوافع التنسيق الروسي التركي

على الرغم من اصطفاف تركيا وروسيا ضد بعضهما البعض في ليبيا، فضلاً عن تعارُض مصالحهما في صراعات أخرى في الفضائين الأوراسي والمتوسطي، إلا أن التشابك الحادث في عدد من الملفات الحيوية للبلدين يجعل كل منهما يُمثِّل للآخر ما يمكن وصفه بـ”الخصم المُفضَّل”، قياساً بخصوم آخرين يجمعهم تعارُض أكبر في المصالح مع أحد الطرفين.

يأتي في مقدمة دوافع التنسيق، المصلحة المشتركة في تقليص نفوذ الأطراف الأوروبية في ليبيا، واحتكام مسار الصراع لمصالح البلدين ودرجة التفاهمات القائمة بينهما؛ ويتقاطع ذلك مع تعقيدات التنازع حول الغاز الطبيعي في شرق المتوسط. فمن ناحية، تسعى تركيا إلى تعطيل الترتيبات الجارية بشأن تعيين الحدود البحرية، ومن ثمّ تقاسم ثروات الغاز، بين دول المنطقة، وهي الترتيبات التي تم تتويجها بتأسيس منتدى غاز شرق المتوسط، الذي تجمع تركيا علاقات عدائية متفاوتة الحدة مع أغلب أعضائه.

تسعى تركيا من وراء تدخلها في ليبيا، وتوقيع اتفاقية رسمية بشأن الحدود البحرية مع حكومة الوفاق المعترف بها دولياً، إلى عرقلة تلك الترتيبات التي تعد تركيا أقل دول المنطقة استفادة منها. وعلى صعيد آخر، فإن روسيا لديها مصلحة أصيلة في عرقلة أي مشروعات إنتاجية تهدد هيمنتها على سوق الغاز في القارة الأوروبية.

ساعد الدعم العسكري النوعي الذي قدمته تركيا حكومة الوفاق على التفوق عسكرياً خلال حرب طرابلس في مواجهة قوات حفتر، التي أُجبِرَت على الانسحاب من كامل المنطقة الغربية. وفي ضوء الحسابات المعقدة والقيود الواقعة على داعمي حفتر التقليديين بشأن تقديم الدعم العسكري الواسع له، فإن زيادة الضغوط العسكرية الواقعة على قواته تدفع إلى مزيد من ارتهان معسكر شرق ليبيا للدعم العسكري الروسي، لاسيما مع احتياج ذلك المعسكر للأوراق التي تملكها موسكو من خلال علاقتها مع بعض مكونات ومدن المنطقة الغربية الداعمة سابقاً لنظام القذافي. ويخدم هذا المسار بطبيعة الحال أجندة موسكو في استعادة نفوذها المفقود في ليبيا.

تتقاطع ديناميات التصعيد العسكري بين طرفي الصراع الليبي، وفق الدعم الروسي التركي لكل منهما، مع مجريات “تفريغ” سوريا من العناصر المقاتلة هناك، بعد تراجع العمليات العسكرية نسبياً، والدفع نحو الوصول إلى تسوية سياسية للصراع. ويُحقِّق تأجيج الصراع في ليبيا أهدافاً استراتيجية للبلدين؛ فمن ناحية، تسعى تركيا إلى استعادة أهميتها التاريخية داخل الناتو، والتي كانت تحوزها خلال حقبة الحرب الباردة، بحكم وقوعها على تماس جغرافي مباشر مع مناطق النفوذ السوفيتي، مما يمنح دورها أهمية حيوية في تحجيم هذا النفوذ. كما تسعى أنقرة من وراء زيادة التفاهمات مع موسكو في عدة ملفات إلى توسيع هامش المناورة مع الأطراف الغربية في القضايا محل الخلاف.

في المقابل، تُبْدي موسكو القدر الكافي من المرونة لدفع التفاهمات مع أنقرة إلى أقصى درجة ممكنة، بالشكل الذي قد يؤثر على التحالفات الغربية لأنقرة، ومن ثمّ إحداث قدر من الخلل داخل الناتو.

أظهرت تجربة التنسيق بين البلدين في ليبيا، ولو من موقع عدائي، قدرتها على تحقيق بعض هذه الأهداف للبلدين، سواء من ناحية حيازة أنقرة ضوءاً أخضر أمريكياً لكبح تمدد قوات حفتر المدعومة روسياً، أو من ناحية تزايد الخلافات بين أنقرة وبين عواصم أخرى من أعضاء الناتو. ومع استمرار وتيرة الصراع في جانبه العسكري، لاسيما مع العودة المرجحة لتزايد نشاط التنظيمات الإرهابية في الجنوب الليبي، فإن ذلك من شأنه تعزيز نفوذ البلدين في ليبيا.

إدارة بايدن وكبح التنسيق الثنائي

تُوحي التوجهات المعلنة لإدارة جو بايدن بأن الهامش المتاح لتركيا وروسيا لتحقيق أهدافهما في ليبيا سيتراجع بشكل ملموس، وذلك قياساً بمجريات الصراع خلال العام المنقضي.

فمن جهة، من المرجَّح تغيير النهج الذي كانت تتعامل به الولايات المتحدة خلال فترة رئاسة ترامب، والذي اعتمدت خلاله الولايات المتحدة على تركيا في التصدي للتدخل الروسي في ليبيا، في الوقت الذي كانت العلاقات بين أنقرة وموسكو تشهد مستوىً كبيراً من التقارب، يتجاوز مجرد سعي تركيا نحو توسيع هامش المناورة مع الغرب، بغرض تثمين دورها لدى حلفائها التقليديين، ليصل إلى عقد صفقة إس 400، على نحوٍ مثَّل تجاهلاً غير معهود للهواجس العسكرية للولايات المتحدة، نظراً لما يترتب على هذه الصفقة من تبعات أمنية على مصالح الناتو.

وفي ضوء الموقف الصارم الذي يُبديه الرئيس الأمريكي المنتخب تجاه روسيا، وبعد قيام الكونجرس الأمريكي بفرض عقوبات ضد تركيا خلال ديسمبر 2020 على خلفية الصفقة، فمن المتوقع التعامل مع السلوك التركي من منظور أكثر شمولاً، بغرض إعادة ضبط هذا السلوك، بما يخدم توجهات بايدن إزاء استعادة تماسك الناتو، والتصدي للنفوذ الروسي بشكل عام.

في هذه الحالة فإن الحسابات التركية في ليبيا قد تصبح أكثر تقيُّداً بالأجندة الأمريكية، بشكل قد يُقلص من هامش الحركة الواسع نسبياً الذي كان متاحاً لأردوغان من قبل، سواء في إدارة سياسة بلاده إزاء ليبيا، أو في علاقته مع موسكو.

من جهة أخرى، فإن استعادة الثقة في العلاقات مع القارة الأوروبية، وأولوية التقارب مع العواصم الكبرى ذات الثقل هناك، بالترافق مع العداء الصريح تجاه كل من موسكو والأنظمة السلطوية بشكل عام؛ كل ذلك قد يؤشر إلى تزايد احتمالات إتاحة المجال للأطراف الأوروبية لاستعادة المبادرة في إدارة الأزمة الليبية مرة أخرى، والتي كان يتم التعامل معها، من وجهة نظر إدارة أوباما-بايدن بوصفها “مسألة أوروبية”.

وعلى الرغم من عدم استعداد الأطراف الأوروبية إلى الاضطلاع بأدوار عسكرية مباشرة في ليبيا، إلا أن توجهات بايدن تشير إلى صعوبة التسامح مع التوظيف التركي للملف الليبي بالنحو الذي يفيد علاقة أنقرة بموسكو على حساب المصالح الغربية، واضطلاعها بأدوار تبدو ظاهرياً دفاعاً عن مصالح الحلف في مواجهة روسيا، لكنها تخلف آثاراً سلبية على التماسك بين أعضائه.

يلتقي ذلك مع ما أعلنه بايدن من تفضيل الأدوات الدبلوماسية في إدارة الأزمات الدولية، بالتوازي مع التأكيد على القابلية للجوء المحدود للقوات الخاصة إذا لزم الأمر. ومن ثمَّ فإن الاحتياج الأمريكي للخدمات العسكرية التركية في ليبيا قد يخضع لمحددات أكثر صرامة ومحدودية.

أخيراً، فإن أولوية محاربة الإرهاب بالنسبة للإدارة الأمريكية الجديدة، والتأكيد على الرغبة في محاربة كلٍّ من تنظيمي داعش والقاعدة، سوف يزيدان من أهمية دول الجوار الليبي كأطراف شريكة للولايات المتحدة في مكافحة النشاطات الإرهابية، لاسيما في ضوء ما تتمتع به هذه البلدان من خبرات بجغرافيا الصراع، بشكل قد يحد من أهمية تركيا في هذا الخصوص.

ويُشار أيضاً إلى سابق اضطلاع قوات القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا (الأفريكوم) بدور مباشر في محاربة الإرهاب في ليبيا، ضمن مجريات عملية البنيان المرصوص عام 2016، أثناء وجود بايدن في منصبه نائباً للرئيس أوباما. وفي المقابل فإن تورط تركيا في دعم عناصر إسلامية متطرفة قد يحد، من وجهة نظر أمريكية، من أهميتها في الاضطلاع بأي أدوار في محاربة الإرهاب في ليبيا.

خلاصة واستنتاجات

  • مثّلت مجريات الصراع الليبي، وتقاطعاتها مع عدد من ملفات الصراع بين أطراف إقليمية ودولية أخرى، فرصة لتوسيع رقعة النفوذين الروسي والتركي في ليبيا خلال عام 2020، وهو ما ارتبط بمستوى عالٍ من التنسيق بين البلدين لبلورة مجموعة من التفاهمات السياسية والعسكرية بينهما هناك.
  • تشير التوجهات المعلنة لإدارة بايدن إلى احتمالية تبنّيها نهجاً أكثر تشدداً تجاه موسكو وأنقرة، بغرض كبح النفوذ العسكري الروسي في ليبيا من ناحية، وإعادة ضبط السلوك التركي من ناحية أخرى، بما يقلّص من هامش “التوظيف الحر” والفردي من قبل تركيا لدورها العسكري كأحد أعضاء الناتو، دون أن يعني ذلك بالضرورة تراجعاً أمريكياً تاماً عن الضوء الأخضر الممنوح لتركيا في ليبيا خلال المدى المنظور.
  • مركز الامارات للسياسات

اترك تعليق

قم باضافة تعليق
الرجاء ادخال اسمك هنا