بإمكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن ينسب لنفسه الفضل في إنجاز واحد، ألا وهو إعادة لفت الأنظار للإستراتيجية الكبرى، هذا رغم كل الأشياء الأخرى التي فعلها في حقل العلاقات الدولية.
لعقود من الزمن، كانت نخب السياسة الخارجية الأميركية في أوساط كلا الحزبين تعتنق “الليبرالية الدولية” القائلة إن واشنطن مطالبة بالحفاظ على النظام الدولي بما يقوم عليه من أسواق حرة، وسياسات انفتاحية، ومؤسسات متعددة الجنسيات، وتوسعة نطاقه. أما ترامب فقد هاجم أعمدة الليبرالية الدولية الأساس في أكثر من مناسبة، بدءا بالتشكيك في قيمة الناتو حتّى إفساد اتفاقيات تجارية وإهانة الحلفاء، حتّى إن ترامب انفجر في وجه فريق الأمن القومي وسمّاهم بـ “حفنة من الأطفال الحمقى” في يوليو/تموز 2017، داخل غرفة اجتماعات سرية في البنتاغون تسمى “ذا تانك”، عند اجتماعهم به لتثقيفه بشأن فضائل النظام الليبرالي الدولي، كما أفادت صحيفة الواشنطن بوست.
لأول مرة منذ عقود، كانت تخريبات ترامب تُرغم محللي السياسة الخارجية الأميركية على التشكيك في المبادئ الأساسية. ومع خلخلة الافتراضات القاعديّة لليبرالية الدولية، انبعثت الجدالات المتعلقة بالإستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة من جديد، وانضمت أصوات جديدة إلى حلبة التنافس، من أقصى اليسار التقدمي حتى القوميين في اليمين الشعبوي، وحظي أنصار تخفيض الانتشار الأميركي بآذان أكثر إصغاء من ذي قبل، وتشكّلت تحالفات جديدة لتقديم أجندات مشتركة. لكن حتى وإن ازدهرت هذه الجدالات، فقد أصبح مفهوم “الإستراتيجية الكبرى” نفسه مفهوما غير واقعي. إن الإستراتيجية الكبرى هي خريطة طريق تضمن أن تتطابق الوسائل مع الغايات، وتعمل بأفضل صورة عندما يكون هناك نسق متوقّع، أي في عالم يتمتع فيه صنّاع السياسة بفهم وافٍ وصافٍ لتوزيع السلطة، وإجماع متماسك على الهوية والأهداف القومية، ومؤسسات سياسية وأمن قومي مستقرّين. ولا يتوفّر أيٌّ من ذلك في عام 2020.
لقد صعّبت الطبيعة المتغيرة للسلطة وانتشار هذه الطبيعة في النظام الدولي من قدرة الولايات المتحدة على رسم مسارها، وأدّى صعود التعددية الثقافية ومن ثم الثورة الشعبوية ضدها إلى تآكل السرديات السائدة حول هوية مشتركة للأميركيين. كما أن الاستقطاب السياسي قد فرّغ مؤسسات السياسة الداخلية في البلاد، ما جعل كل إدارة جديدة تتسلم المنصب تتكئ على إلغاء منجزات الإدارة التي سبقتها. في حين أدّت حمى مناهضة المؤسسة إلى الحطّ من نقاش السياسات وأرخت الضوابط التي تولّد التماسك على السلطة التنفيذية.
إننا نكتب بصفتنا ثلاثة مفكّرين قلما يتفقون في شؤون السياسة والسياسات أو الأيديولوجيا، لكنهم يتفقون مع ذلك على أن هذه العوامل الجديدة قد حوّلت أي ممارسة في صناعة الإستراتيجية الكبرى أو السعي إليها إلى ممارسة مكلفة عقيمة. ما من ممارسة إستراتيجية كبرى ستكون مؤثرة، وما من ممارسة ستدوم طويلا. وبدلا من التشاحن حول العقائد الإستراتيجية المختلفة، ينبغي للإستراتيجيين، وجماعات التفكير، وصناع السياسة، التركيز على أشكال أكثر براغماتية وعملية من حل المشكلات. إن السياسة المبنية على حل كل قضية في وقتها بدءا من التدخل العسكري حتى المساعدات الأجنبية ستكون بكفاءة سياسة الالتزامات الإستراتيجية نفسها، هذا إن لم تكن أفضل منها. كما أن النقاش بشأن الإستراتيجية الكبرى هو استغراق عقيم في الذات بينما العالم كله يجلس على كف عفريت، وقد حان الوقت لكي تعمل الولايات المتحدة دون الاستناد إليها.
إن الإستراتيجية الكبرى الناجحة إنما تنبثق عن تصور دقيق للتوزيع العالمي للقوة. أما التصور الذي يضخّم حجم عدو أو يستخف بأهمية تهديد فلم يعد ينتمي لهذا العالم، لأنه سيؤدي إلى خيارات سياسية يمكن أن تأتي بنتائج عكسية. ولا شك أن أحد الأسباب التي جعلت الكثيرين يهاجمون إستراتيجية الليبرالية الدولية الخاصة بالولايات المتحدة الأميركية على مدار العقد الماضي هو اعتقادهم بفشل هذه الإستراتيجية في التنبؤ بالصعود الصيني.
لم تعد القوة في السياسة العالمية ما كانت عليه قديما، أي إنها لم تعد تتمثّل في قدرة الولايات المتحدة على ممارسة القوة بالطريقة التي تمارس بها بالقوة، ولا في ممارسة القوة للأغراض ذاتها أو الاستنكاف عن ممارستها حتى للأسباب ذاتها، ولا حتى في تقرير مَن يمتلك القوة، كل هذه الأشياء تغيرت جوهريا. وكانت النتيجة هي ظهور عالم بلا أقطاب ولا نظام، وليس هذا بالعالمِ الذي يمكن للإستراتيجيةِ الكبرى أن تعمل فيه بأريحية.
بالتأكيد أن كثيرا من الأمور ستظل على حالها، إذ لا يزال الناس بنسبة كبيرة يعرّفون هويّتهم بالانتماء القومي، ولا تزال البلدان تسعى للسيطرة على الموارد الضرورية والعبور إلى ممرات بحرية والنزاع على المناطق الجغرافية والتأثير الإقليمي، ولا تزال رغبتها متمثلة في توسعة نطاق الثروة والتأثير والأمن والاستقلالية. لكن تكديس الأراضي لم يعد الغنيمة التي كان عليها فيما مضى. إن القوى العظمى اليوم تبدو مصرّة على القيام بأمرين أكثر من أي شيء آخر؛ اكتساب الثراء، وتفادي المساجلات العسكرية، إنها تدرك أن الدول تترقى على سلّم القوة والمكانة العالميتين ببناء اقتصادات المعرفة وتعزيز الإبداع التكنولوجي وتمتين الأواصر ضمن الشبكات العالمية. في خضم ذلك، تصبح القوة متعلقة بشكل أكبر بالقدرة على العرقلة، والمنع، والإعاقة، ورفع الفيتو، والتدمير عمّا هي متعلقة بالبناء، والتمكين، والتصليح والتشييد.
ولنأخذ مثلا قدرات “رفض العبور/المنع المناطقي” (A2/AD) التي تسعى خلفها الصين، وهي في الأساس تقنيات الحرب السيبرانية والأسلحة المضادة للأقمار الصناعية، والتي تهدف إلى رفع الكلفة والمخاطر بالنسبة للقوات الأميركية التي تعمل غرب المحيط الهادئ. وهناك اعتقاد أن إيران تقوم بالأمر عينه في الخليج العربي، باستخدام الغواصات والصواريخ المضادة للسفن والألغام المتطورة ضمن جهودها لإقامة منطقة “منع مناطقي” للبحرية الأميركية.
عند استخدام القوة لأغراض هادفة محددة فإنها تصبح مقرونة بالقضايا المتعلقة بها فحسب، ما يعني عدم القدرة على فرضها بالشكل نفسه من حقل لآخر. ونادرا ما تُحقِّق القوة العسكرية أهدافا قومية بعد الآن، إذ يغلب أن تؤدي هذه التدخلات إلى مفاقمة سوء الأوضاع. ويتضح الأمر في الفجوة الفاغرة بين نتائج حربَيْ الخليج الأولى والثانية. إن القوة ببساطة لم تعد شيئا واحدا كما كانت عليه من قبل. ومثلا فلا عجب أن جهود إدارة ترامب في ربط التعاون الأمني والاستخباري بإعادة التفاوض في الصفقات التجارية قد باءت بالفشل.
وأخيرا، فإن تبعثر القوى في أرجاء النظام الدولي يؤدي إلى عالم منزوع الأقطاب. ويشير الكثيرون إلى صعود الصين والمتنافسين الآخرين بالقول إن العالم يعود إلى عصر الأقطاب المتعددة أو ثنائية القطب داخل شبكة من الأقطاب المتعددة، لكن ذلك الرأي يستهين بالتغيير التكتوني الجاري حاليا.
لم تعد العلاقات الدولية خاضعة لهيمنة قوة عظمى واحدة أو اثنتين أو أكثر، لأن القوة الاقتصادية أو العسكرية لم تعد تؤدي إلى التأثير بالدرجة نفسها التي كانت عليها في الماضي، لقد فقدت الذئاب المتوحشة قدرتها على العض، فالضعيف والقوي يواجهان العراقيل ذاتها ويتمتّعان بالقدر نفسه من حرية التصرف. أضف إلى ذلك أن كل واحد من الفاعلين الجدد، بدءا من الميليشيات المحلية حتى المنظمات غير الحكومية إلى الشركات الضخمة، يمتلك ويمارس أنواعا مختلفة من القوة التي تتنافس بشكل متزايد مع الدولة. ونسبيا، فقليلة هي الدول الممثَّلة داخل الأمم المتحدة والتي يمكنها أن تزعم احتكار القوة داخل حدودها الجغرافية. لم تعد الأطراف غير الدولتية العنيفة مجرد لاعب هامشي، فالجماعات الإثنية، وأمراء الحروب، والعصابات الشبابيّة، وجماعات العنف الطائفي، والميليشيات، والمتمردون، والمنظمات الإجرامية العابرة للحدود، كلها تعمل على إعادة تعريف القوة في أرجاء العالم.
وتؤدي هذه التغيرات في موازين القوى إلى نشوء عالم يتسم بالعشوائية، وعالم مأهول بعشرات مراكز القوة سيكون عصيا على التوقع والسيطرة. في ظل هذا اللا نظام العالمي الجديد، قد لا تتمكّن دول باقتصادات وجيوش ضخمة من إلزام الآخرين بالقيام بما تريده هي، ويستحيل جوهريا للدول الحديثة التأثير في جماعات تزدهر في أماكن غير خاضعة للسيطرة أو عبر الإنترنت، مهما حازت هذه الدول من قوة عسكرية أو سياسية. وليس السبب فقط لأن هذه الجماعات تفتقر إلى هدف واضح يمكن تهديده أو تدميره، ولكن لأن العديد منها تحفّزه أسباب غير قابلة للتفاوض، مثل تأسيس خلافة أو دولة منفصلة، وأسوأ هذه الأسباب جميعا أن يكون العنف مصدرا من مصادر اللُّحمة الاجتماعية.
مع عجز القوة التقليدية عن إحداث التأثير الذي أحدثته فيما مضى، سينحسر النظام والتعاون الدوليان، حيث سيزداد قيام العلاقات الدولية على ترتيبات فوضوية غير منظمة. أما الأخطار فلن تأتي من النيران، كاندلاع حرب من أجل حقوق الإنسان أو المواجهات المحمومة حول الحقوق الفكرية أو التلاعب بالعملات، بل من الجليد، من الصراعات الباردة على الجغرافيا السياسية، أو مسائل النقد والتجارة والبيئة. ونظرا للأثمان الباهظة التي يمكن أن تكبِّدها الحرب العسكرية، فلم تعد أرض المعركة خيارا واردا في حال فشلت القوى العظمى في التوصل لحل لنزاعاتها على طاولة المفاوضات. أما إن أفلحت الترتيبات السياسية، فإن عمرها سيكون قصيرا.
لم تعد الإستراتيجية الكبرى ملائمة في ظل عالم عشوائي، فالإستراتيجيةُ الكبرى خطيّة، في حين أن عالم اليوم يقوم على التفاعل والتعقيد؛ وحيث أكثر الطرق مباشرة بين نقطتين ليس خطا مستقيما. لا يعترف هذا المجال الفوضوي المبعثر والسائل تحديدا بالفضيلة المفترضة للإستراتيجية الشاملة، والمتمثلة بخطّة عملية مستدامة ومتماسكة على المدى الطويل، إذ ينبغي للفاعلين تغيير إستراتيجيتهم باستمرار، إن أرادوا النجاح في بيئة من هذا النوع.
يجب على الإستراتيجية الكبرى المستدامة أيضا أن تعتمد على نظرة مشتركة للعالم في الأوساط المفتاحية لدوائر التأييد السياسي. أما إن كانت كل حكومة جديدة تتولى رئاسة البلاد ستأتي بفهم مختلف جذريا للتحديات والفرص على المسرح العالمي، فما من إستراتيجية ستدوم طويلا. كل حكومة جديدة ستمزق سياسات التي سبقتها، في تدمير للبِّ الفكرة التي تقوم عليها الإستراتيجية الكبرى. لقد استمرت إستراتيجية الردع لأن كل رئيس للولايات المتحدة الأميركية من ترومان إلى ريغان التزم بنسبة كبيرة بنظرتها الأساسية للشؤون الدولية، في حين اعتنق كلٌّ من بيل كلينتون وجورج بوش وباراك أوباما تنويعات على مقام الليبرالية الدولية.

لم يعد هذا الإجماع موجودا بعد الآن، فقد كان هناك تشكيك متزايد في أرجاء الغرب في الخمسين سنة الأخيرة بفضائل وحقيقة مفهوم الأمم أو “الجماعات المتخيلة” كما يسميها عالم الاجتماع السياسي بندكت أندرسون، والتي توحّدها جميعا سردية مشتركة. لكن هذه الشكوكية جاءت من مكان حميد، من الوعي المتزايد بأن السرديات القائمة المُهيمنة يمكن أن تكون سرديات قمعية، وبإمكانيّة أن تكون هذه السرديات تعكس مصالح وخبرات الأقوياء لإسكات أصوات الجماعات المهمّشة.
بدأت التعددية الثقافية تنتشر، في الولايات المتحدة على الأقل، في الأيام الأخيرة لحرب فيتنام مستهلَّ سبعينيات القرن الماضي، وتجاوزت كونها إستراتيجية لإدارة التنوّع [الثقافي] بطريقة أعدل وأشمل مما كانت عليه، بحيث أصبحت مفهوما يتأصل في شكوكية متزايدة إزاء ضرورة هوية مشتركة توفّق بين المجتمعات.
ونستطيع رؤية بعض من تأثيرات هذه الثورة الثقافية في انفجار سيل من الأسابيع والشهور المخصصة للاحتفال بموروثات إثنية وعِرقية محددة، والتي يعتقد معظم الأميركيين أنها عديمة الضرر، بل جيدة. لكنّ إحدى عواقبها المميزة افتقارُ الأميركيّين اليوم إلى سردية قومية مشتركة، وذلك لسبب وجيه، فقلّة منهم يتحدثون عن “بوتقة الانصهار”. وقد تذمّر المؤرخ جيل ليبور في هذه الصفحات عام 2019 من أن المؤرخين قد توقفوا عن الكتابة عن الأمة الأميركية منذ عقود من الزمن. وبإمكانك الاستماع لأي مناظرة ديمقراطية في موسم الانتخابات الحالي لترى مدى انزعاج السياسيين الأميركيين على اليسار الليبرالي من خطاب القومية الأميركية.
لكن القومية برهنت على قوّة عنيدة، بمقدار ما كان عنيدا توقُ الناس إلى سردية مشتركة تُعينهم على فهم عالمهم. ولطالما كان المحافظون الثقافيّون في الولايات المتحدة يلجؤون إلى هذا الركن، ساعين إلى تحديد نواة ثقافية، تتضح في كتب مثل “قاموس المعرفة الثقافية”، الذي حاول فيه الأكاديمي إي. دي. هيرش إدراج الشخصيات والأحداث والأعمال “التي يجب أن يعرفها كل أميركي”. وامتدَّ الأمر إلى شنّ حرب ضد التعليم ثنائي اللغة، حيث تصدر المحافظون الثقافيون حملة استمرت عقودا من الزمن، وتكللت بالنجاح حتى اليوم، لإعلان الإنجليزية لغة رسمية في نصف الولايات الأميركية.

وفي ظنّهم أن الولايات المتحدة آخذة في التفكك والانهيار، وأن اللوم في ذلك يقع على المهاجرين لرفضهم الانصهار في النسيج القومي. في حين تردّد الليبراليون بشأن الاستثنائية الأميركية، ومن شواهد هذا التردد إعلان أوباما عام 2009 عندما قال: “إنني أشكك بالاستثنائية الأميركية بمقدار ما أشك بإيمان البريطانيين بالاستثنائية البريطانية واليونانيين بالاستثنائية اليونانية”. أما المحافظون من جهتهم فقد اتكؤوا عليها. وعلى العكس من الديمقراطيين، فلا يجد ترامب أي حرج من استخدام اللغة القومية، وإن كان يوظفها بأسلوب يستثني نصف سكان البلاد.
وكانت الإستراتيجية الكبرى من بين ضحايا تصدُّع هذه السردية القومية. ذلك أن الإستراتيجية الكبرى تعتمد على سردية أمنية تُحدِّد هوية الأبطال على مسرح السياسات العالمية، إنها تحكي قصة ما فعله أولئك الأشخاص وما سوف يفعلونه، وتصوّر المسرح الخلفي الذي ستجري فيه أحداث معيّنة. والجدالات حول الإستراتيجيات الكبرى المتنافسة هي في الواقع جدالات حول عنصر أو أكثر من عناصر السردية هذه.
وعلى سبيل المثال، يعتقد أولئك المؤيدون للاشتباك العميق أن أميركا والأمن العالمي غير قابلين للفصل، في حين يعتقد أولئك المنادون بخفض الانتشار بالعكس. وفي ظل غياب الاستعارات والرموز البلاغية التي تزوّد بها السردية القومية المشتركة مواطنيها، يصبح من المستحيل صوغ إستراتيجية كبرى تلاقي أصداء عند شرائح متنوّعة من المؤيدين، بل يصبح من الأصعب تنفيذ إستراتيجية بعينها على امتداد تنويعة من حقول السياسات وصنع القرار والحفاظ على هذه الإستراتيجية مع الوقت.
ونجد أحد تجليات تفسُّخ السردية في الولايات المتحدة في الاستقطاب الصارخ الذي أصبح يعرّف السياسات الأميركية، ولم يعد يقتصر على المسائل الداخلية الساخنة، إذ ينقسم الأميركيون على طول الحدود الحزبية بشأن باقة واسعة من مسائل السياسة الخارجية، مثل التغير المناخي، ومكافحة “الإرهاب”، واستخدام القوة، والسبب في ذلك غياب البيئة الملائمة لجدالاتِ الإستراتيجية الكبرى.
وأحد أسباب ذلك أن الاستقطاب ينزع أي فائدة تُرجى من ملاحظات الخبراء. فقد وجد علماء السياسة أن إجماع الخبراء على قضية يمكن أن يغيّر المواقف العامة من القضايا التي لم ينشأ حولها استقطاب سابقا، ومنها التلاعب الصيني بالعملة. لكن عندما يكون الجمهور مستقطَبا سلَفَا إلى انتماءاته الحزبية، مثلما هو الحال في مسألة التغير المناخي، فإن الاستقطاب يجعل إجماع النخبة أعقم من العقم نفسه. في حين تجعل مشورة الخبراء الذين لا ينتمون حزبيا لأي جهة أنصارَ كلا الحزبين أشد تشبثا بآرائهم السابقة.
كما أن الاستقطاب السياسي يصعّب عملية التعلم. فلكي تتحسّن الإستراتيجية الكبرى، ينبغي أن يتشكّل إجماع على العناصر التي أخفقت منها، وعلى أسباب ذلك الإخفاق. وفي ظل بيئة سياسية مستقطَبة، فإن الطرف الذي يخشى أن يتحمل المسؤولية لن يقبل بفرضية فشل سياسته حتى مرور وقت طويل على هذه الحقيقة. ومثلا، فقد أصرّ الجمهوريون لسنوات على أن حرب العراق مثّلت انتصارا حتى بعد سنوات اتضح فيها وضوح الشمس أن الولايات المتحدة فقدت القدرة على إقامة السلام. وثمة حافز متواصل لدى الحزبيين لثني الحقيقة بحيث تنسجم مع حججهم، مما يجرّد نقاش السياسة الخارجية من الحقائق المتفق عليها التي يغلب أن تؤطِّر أي نقاش.
الأهم من ذلك أن الاستقطاب يعني أنَّ أي إستراتيجية شاملة يأتي بها الحزب ستدوم بمقدار ما يظل ذلك الحزب مسؤولا عن السلطة التنفيذية. وبما أن الكونغرس والمحاكم منحوا الرئيس سلطة تكاد تكون احتكارية لصياغة سردية الأمن القومي، فإن بإمكان الرئيس أن يغيّر الإستراتيجية الشاملة للبلاد جذريا، وهو أيضا أمر في متناول الرئيس القادم عن الحزب الآخر.
تتطلّب الإستراتيجية الكبرى باقة واسعة من الأفكار، تدعمها مؤسسات متماسكة، لمساعدة صناع السياسة على تصحيح المسار بمرور الوقت. فحتّى الإستراتيجية الكبرى الدائمة ينبغي أن تتعامل مع تغييرات البيئة الإستراتيجية، وذلك حتى إن تمخضت الإستراتيجيات المدروسة جيدا عن عثرات سياسية ينبغي الرجوع عنها. لقد ارتكبت الولايات المتحدة نصيبها من أخطاء السياسة الخارجية خلال الحرب الباردة، لكن الشد والجذب بين المؤسسة ومنتقديها وبين الفرع التنفيذي والكونغرس أدى في النهاية إلى كبح أسوأ تجاوزات النشاط الأميركي ومنع الإفراط في ضبط النفس أيضا.
على مدار الخمسين سنة الأخيرة، وما إن تآكلت بنى السلطة التي عُرفت باستقرارها قديما، حتى تنامت شكوك الجمهور الأميركي إزاء الحكومة الفيدرالية، والصحافة، وكل مؤسسة عامة كبرى غيرها في البلاد. كما أن انعدام ثقة الأميركيين يمتد إلى مؤسسة السياسة الخارجية، وفي هذا الصدد، فمن الصعب لومهم. ذلك أن نخب السياسة الخارجية قد دعمت إلى حدٍّ كبير استخدام القوة في أفغانستان والعراق وليبيا، ولم يكن بالإمكان اعتبار أيٍّ من هذه التدخلات نجاحا. وكما كشفت “أوراق أفغانستان”، وهي مجموعة من الوثائق الحكومية التي نشرتها الواشنطن بوست في وقت لاحق من العام الفائت، فعلى مدار عقد من الزمن، كان القادة المدنيون والعسكريون على حدٍّ سواء يمارسون الكذب على الجمهور الأميركي فيما يتعلق بمجرى الحرب في أفغانستان. أما الأزمة المالية التي وقعت عام 2008 والربيع العربي، فقد أخذا نخب السياسة الخارجية على غفلة منهم. وكما يتضح فبعض الشكوكية بشأن الخبراء مطلوبة.
أما الكثير من الشك فيمكن أن يكون مدمرا، فالتشكيك في قيمة الخبرة في السياسة الخارجية يقوّض وجود باقة صحّية من الأفكار حول الإستراتيجية الكبرى، ويقول الصحفي كريس هايس في “غروب النخب”: “إن تم تخوين الخبراء ككل، فإننا سنكون بإزاء سيل لا ينفد من الخداع”. علاوة على ذلك، فإن المنضمين الجدد يقدّمون جدالاتهم جزئيا عبر تفكيك الإجماعات الموجودة سلفا حول الإستراتيجية الكبرى، إنهم يستغلون السرديات المتعلقة بالسياسات الخارجية الفاشلة للماضي بهدف المحاججة بأنهم لن يكونوا أسوأ من أسلافهم، كما أخبر ترامب المصوتين في أحد التجمعات الانتخابية عام 2016: “الخبراء فظيعون. إنهم يقولون إن ترامب يحتاج إلى مستشار للأمن القومي… هل يمكن حقا أن يكون الأمر أسوأ مما هو عليه في الوقت الحالي؟”.
موت الاحترام للخبرة هو مجرد عنصر واحد من قصة سياسية أكبر في القرن الحادي والعشرين، إنها تزايد القومية الشعبوية اليمينية كجزء من السياسات العامّة على امتداد العالم الغربي. وقد آتى الأمر أُكله لبعض الوقت، لأن صعوده متأصل جزئيا في الاضطراب الاقتصادي، إنما بالدرجة نفسها، ما لم يكن أكثر، في سياسات رد الفعل الثقافي، فالشعبوية تجعل السياسات الشاملة موضع نقاش.
ثمة صورة مبسطة عن السياسة في صميم كل أشكال الأكاذيب الشعبوية، يؤكّد فيها الزعيم الشعبوي وجود قوم لديهم نقاء أخلاقي ما، في تناقض مع النخب الفاسدة، زاعما أنه الوحيد الذي يعلم رغبة الشعب، ما يعني أن السياسات الشعبوية تستجلب النزوع السلطوي. ومن خلال خلخلة النخب والمؤسسات التي يفترض بأنها فاسدة، يُضعِفُ القائد الشعبوي كل القوى التي تقف في طريقه. وفي تأكيد اتصاله المباشر بالشعب دون وسيط، يزعم القائد الشعبوي بأنه يُمثِّل الناس بطريقة أفضل من أي عملية سياسية، فيصبح المنتقدون أعداء، والقيود الدستورية عقبات أمام الديمقراطية، وطغيان الأغلبية فضيلة، وليس رذيلة ولا شرا.
لا تنسجم الشعبوية مع الإستراتيجية الكبرى؛ فأولا، الشعبوية تُبرز الانقسامات الداخلية، ولأنها استقطابية بطبيعتها، فإنّها تضيّق نطاق السكّان الذين تفترض أنهم سكّان أصليون بحيث لا تعود هناك وحدة داخل الرقعة الجغرافية الواحدة. ثانيا، إن السياسيين الشعبويين عادة ما يحشدون الناس في غضب صوابيّ ضد خصومهم. وعندما تحتدم الأجواء المشحونة، تهدد الردود العاطفية على الأزمة بالحلول محل الإستراتيجية العقلانية، وتصبح الإستراتيجية أقل طواعية، مع سعي الزعماء المضطرب خلف تكتيكات استعطافية في مناخ يسوده الإساءة والوعيد. وأخيرا، فإن الشعبوية تُركّز السلطة في القائد الكاريزماتي، إنها تُجرِّد المؤسسات والبيروقراطيات من قدرتها ضبط القادة المتلونين والحد من القرارات المتطرفة. وهكذا تكون السياسية في نظام شعبوي محضَ انعكاسٍ للقائد، أكان لالتزاماته الأيديولوجية أو نزواته الشخصية. أما إن سعى الزعيم الشعبوي خلف شيء قريب إلى الإستراتيجية الكبرى، فإن عمر هذا الشيء لن يتخطّى فترة حكمه.
الإستراتيجية الكبرى ميتة، فانعدام اليقين الجذري الذي تُولِّده سياسات العالم غير القطبي يجعلها أقل جدوى وخطورة. حتى إن كانت مفيدة في تنظيم استجابة الولايات المتحدة للتحديات العالمية اليوم، غير أن السياسة الداخلية الآخذة بالانقسام قد صعّبت تنفيذ إستراتيجية كبرى متماسكة واستمرارية. ذلك أنَّ التخوين الشعبي للخبرة قد أدّى إلى تآكل الجدال المعقول حول الدروس التاريخية والإستراتيجيات المرتقبة. لقد أنهت الشعبوية الضوابط المؤسسية والتوازنات التي تحمي الإستراتيجية الكبرى من التأرجح العنيف.
لكنّ المفكرين الإستراتيجيّين في البلاد لا يزالون في المراحل الأولى من رثاء الإستراتيجية الكبرى، فالجدل المتأجج حول خيارات الإستراتيجية المتاحة يشير إلى أن الكثيرين منهم عالقون في مرحلة الإنكار. أما السخط الموجّه صوب إدارة ترامب لافتقادها إلى التفكير الإستراتيجي فيوحي أن الكثيرين غيرهم عالقون عند مرحلة الغضب. ونحن أنفسنا نختلف حول ما إذا كان علينا أن نرثي لاندثار الإستراتيجية الكبرى أو نحتفل، لكننا متفقون على أن الوقت قد حان للانتقال إلى المرحلة الأخيرة من عمليّة الحزن: القبول.
إن المُضي قُدما دون إستراتيجية كبرى يتطلّب اعتناق مبدأين: اللا مركزيّة، والتدريجية. ذلك أن الظروف المتسمة بقدر عالٍ من اللا يقين تتطلّب شبكات صنع قرار لا مركزيّة تنسق بين بعضها بعضا. وقد تعلّم قطاع الشركات أن على المديرين مقاومة إغواء السيطرة على كل قرار من القرارات ومحاولة معرفة الطرق التي يمكن من خلالها رفع مستوى الإبداع عبر تشكيل البيئة التي تُولِّد باقة من الخيارات. إن الشركات الذكية تفكك مركزية السلطة والمسؤولية، وتحث الموظفين على حل المشكلات بالعملِ الجماعي، وتتخذ نهجا غير مباشر في تعيين المهام والمسؤوليات. وينبغي للحكومات تنظيم آلية السياسة الخارجية لديها بالأسلوب ذاته. ذلك أن تقدير المعرفة المحلية والثقة بتعليقات الخبراء أفضل سبيلا في التعامل مع الاضطرابات والمشكلات الناشئة وحل الأزمات قبل أن تبدأ رقعتها بالاتساع.
ينبغي للتغيير التنظيمي أن يترافق مع التغيير الثقافي: باتجاه إعلاء شأن الخبرة التي تبدأ من القاعدة وتنتهي بالقمة. فالإستراتيجية الكبرى تراهن على أن مَن يُخطِّطون بدقة في المركز يمنحونك أفضل النتائج. إنها تفترض أن أثمان المرونة المفرطة تتجاوز أثمان التصلب. لكن ذلك يكون طائشا عندما يحدث التغيير بسرعة وعلى حين غرة. التدريجية هي الرهان الأفضل. ذلك أنها لا تتطلّب تقديم كل ما لديك دفعة واحدة، ولا يمكنها أن تحقق النصر بضربة واحدة، لكن بإمكانها أن تتجنب الخسائر الكارثية، كما أنها تسمح بالتكيف السريع للظروف المتغيرة. عند ممارستها فإن ذلك سيعني تفويض المسؤولية من واشنطن إلى قادة الميادين، لا سيما المبعوثين والخبراء الموضوعيين. بصياغة أخرى؛ فإنه سيعني اتخاذ نهج مخالف تماما للعديد من الإدارات السابقة، التي مركزت كثيرا من عمليات صنع القرار في البيت الأبيض.
ينبغي لمستشاري الأمن القومي الطموحين التوقف عن التنافس على لقب “جورج كينان” التالي. ذلك أن صوغ إستراتيجية مستدامة تخلُف إستراتيجية الردع ليس مهما ولا ممكنا في المستقبل القريب، أما تحسين أداء السياسة الخارجية فنعم. وبالنظر إلى السجل الأخير للسياسة الخارجية الأميركيّة، فلا يبدو الأمر سيئا.
- الجزيرة