اهتمت وسائل الإعلام العربية في تناولها كتاب “النفط والدم”، الصادر في أوائل شهر سبتمبر/ أيلول الحالي في الولايات المتحدة، عن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، وقصة صعوده إلى السلطة، بما احتواه الكتاب بين صفحاته الـ330 من تفاصيل ومعلومات جديدة عن سياسات ومواقف اتخذها، مثل عمل أحد مساعديه على اختراق “تويتر” للتجسّس على الناشطين السعوديين المؤثرين على الموقع.
وكيف تم، وبتنسيق ابن سلمان مع صهر الرئيس الأميركي جاريد كوشنر، حصار قطر وكيف أعد له. وحملاته للقضاء على نفوذ كبار منافسيه في العائلة المالكة وتجريدهم من ثرواتهم.
وهذه كلها وغيرها معلومات مهمة تساعد في فهم أسلوب تفكير ابن سلمان وصناعة القرار في المملكة في الوقت الحالي، ولكنها لا تعبر عن القيمة الحقيقية للكتاب وفكرته الأساسية وأهميته، بوصفه سيرة مفصلة لـ ابن سلمان وقصة صعوده إلى السلطة ومصادر قوته وضعفه.
يمتلك مؤلفا الكتاب، برادلي هوب وجاستين شيك، وهما صحافيان في صحيفة وول ستريت جورنال، الأميركية المعروفة، وذات الصلات القوية بالمسؤولين الأميركيين، قدرة تحليلية لا تقل أهمية عن قدرتهما في جمع المعلومات، والوصول إلى المصادر وإجراء مقابلات كاشفة.
الكتاب في جوهره تحليل لمصادر قوة محمد بن سلمان وضعفه، حيث يقدّم الرجل نفسه للسعوديين والعالم قائدا جديدا يمثل لحظة انقطاع عن القديم، وبداية لعهد جديد في المملكة، عهد تنعم فيه العربية السعودية بمزيد من الحريات، كقيادة النساء السيارات، وتشييد أماكن الترفيه وتراجع سطوة العلماء المحافظين.
وأهم من ذلك كله عهد جديد تعيد فيه المملكة بناء قوتها الاقتصادية، بشكلٍ يجعلها أقل اعتمادا على النفط، وهو مصدر الثروة الوحيد في المملكة منذ نشأتها، وتتعدّد فيه مصادر النمو الاقتصادي، وتنفتح فيه المملكة على العالم اقتصاديا وثقافيا.
يصوّر “الدم والنفط” محمد بن سلمان رجلا مشغولا دائما بمراكمة السلطة والثروة، والثروة هنا بالمعنى الشخصي والعائلي، وبالمعنى الوطني أو ثروة السعودية نفسها.
لكنه يبدو، في نهاية الكتاب، وقد راكم السلطة والثروة الشخصية والعائلية، ولم يحقق الكثير في ما يتعلق بوعده الرئيسي، وهو إعادة بناء اقتصاد المملكة وثروتها بعيدا عن النفط.
ويترك مؤلفا الكتاب، في صفحاته الأخيرة، الباب مفتوحا أمام ابن سلمان ليعيد التفكير في سيرته وكيف سيشكل بقيتها، لو قدّر له البقاء في السلطة فترة أطول، قد تمتدّ عدة عقود، كما هو مرشّح حاليا، فهدف الكتاب ليس إدانة ابن سلمان، وإنما تقييم مسيرته ومحاولة فهمها.
يمثل صعود ابن سلمان إلى السلطة لحظة انقطاع سياسي كبير في تاريخ السعودية، فهو لم يكن معروفا للعالم قبل صعود والده الملك سلمان بن عبد العزيز إلى الحكم، وقبل أن يعيّنه والده في مناصب رفيعة كثيرة تولاها بعد ذلك، ويمثّل صعوده إلى ولاية العهد انقطاعا أكبر!
فهو ليس من أبناء الملك المؤسس، وخبرته وشهرته في الداخل والخارج لا تعادل خبرة وشهرة ولي العهد المقال محمد بن نايف، وصعوده إلى الحكم والسياسات التي مارسها في حق منافسيه بالسلطة، وفي مقدمتهم ابن نايف وعمه أحمد بن عبد العزيز، وأولاد الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز، هدمت كثيرا من تقاليد الأسرة السعودية الحاكمة.
ولأول مرة لم تعد الأسرة الكيان الحاكم، بل أصبح الملك وأولاده فقط، أو الملك وولي عهده، وهو انقطاع كبير وفصل سياسي جديد لا يعلم أحد كيف سينتهي.
يقول الكتاب إن المسؤولين الغربيين فوجئوا بسرعة صعود بن سلمان، وقدرته الهائلة على التخطيط لإزاحة منافسيه من السلطة، والتخلص منهم بلا رحمة، وضعف مقاومتهم له. ويبدو أن السبب الرئيسي لذاك طبيعة نظام الحكم في المملكة، حكما ملكيا مطلقا، فالواقع أن السلطات كلها تتركز في يد الملك وحده، وهو قادر على إطاحة مختلف الشخصيات والتقاليد.
لذا لم تعد لهيئة البيعة قيمة، ولا للتقاليد الخاصة بتولي أبناء بن سعود الحكم، ولا تلك المتعلقة بتوزيع قيادة المؤسسات الأمنية الثلاث الكبرى (الجيش والداخلية والحرس الوطني) على أمراء مختلفين، ولا بشراء دعم أعضاء الأسرة الحاكمة وولائهم، من خلال توزيع الهبات والثروة.
أطاح محمد بن سلمانكل تلك التقاليد، وهو الذي يصوّره مؤلفا “الدم والنفط” شابا متمرّسا في أساليب السلطة، رفض التعلم في الخارج، كإخوته الكبار وأمراء سعوديين كثيرين، وفضّل البقاء بالقرب من والده، ليتعلم منه كثيرا من أسرار الحكم والعائلة المالكة.
وفي كل مراحل التخلص من منافسيه، رفع ابن سلمانشعارا أساسيا، محاربة الفساد وبناء عهد جديد والتنمية الاقتصادية والانفتاح والأفكار الجديدة.
اعتقل ابن سلمانمئات الأمراء وكبار رجال الأعمال، وصادر أجزاء كبيرة من ثرواتهم، بحجة مكافحة الفساد. حارب المعارضين والأمراء بتهم الخيانة والتآمر مع الخارج والتعاون مع دول معادية!
وصوّر نفسه دائما شابا سعوديا وطنيا ومنفتحا يريد أن ينقل السعودية إلى عهد جديد من الانفتاح على العالم والتنمية الاقتصادية. هكذا روّج نفسه، وهكذا أراد كثيرون في السعودية وحول العالم رؤيته.
وبمرور الوقت، نجح بن سلمان، في رهانه الأول الخاص بمراكمة السلطة والثروة الشخصية والعائلية، حيث بات يُنظر إليه باعتباره أحد أهم المسؤولين في العالم، فهو يدير المملكة بثرواتها المالية الضخمة، ويخوض حروبا نفطية أدت إلى انهيار أسعار النفط في العالم (ولو أضرّت ببلاده) ويشن حربا على اليمن من دون استشارة ولي العهد في ذلك الحين، محمد بن نايف.
ويلتقي ترامب في البيت الأبيض لقاء الزعماء، ويشنّ حصارا على قطر، ويلتقي أكبر رجال الأعمال في العالم ويدعوهم إلى المملكة في “دافوس في الصحراء”، وينتقم من معارضيه أشدّ انتقام.
ولكنه في مساعيه تلك فشل في رهانه الثاني والأهم، وهو الخاص بشرعية الإنجاز وإعادة بناء اقتصاد المملكة. يقول الكتاب إن هدف ابن سلمانالأساسي هو جذب الاستثمارات الأجنبية إلى المملكة، وجعلها اقتصادا محوريا جاذبا تأتي إليه رؤوس الأموال من حول العالم وتستثمر فيه، فمنذ نشأة المملكة واقتصادها قائم على النفط وتوزيع عوائده أو استخدامها لشراء الأسلحة وخدمات الشركات الأجنبية.
ويفيد الكتاب بأن كثيرين من رجال الأعمال الذين يلتقيهم ابن سلمانيتلهفون للقائه، على أمل الفوز بصفقات تموّلها السعودية، ولكن ابن سلمانيريد شيئا آخر.
يريد دعوتهم إلى الاستثمار في المملكة، في مشاريع كالسياحة ومدينة نيوم وفي أسهم شركة أرامكو، وهو ما لم يحدث. حيث تحول بيع بعض أسهم “أرامكو” إلى حدث محلي وإقليمي، وفشل في جذب رؤوس الأموال الدولية، ولم تذهب مشاريع نيوم بعيدا.
ولم تجذب المملكة استثمارات أجنبية تذكر في الأعوام الخمسة الأخيرة وفقا لإحصاءات البنك الدولي (نصف مليار دولار فقط في عام 2019)، وانهارت أسعار النفط بشكل مخيف في أوائل عام 2020 بفعل أزمة كورونا، ما يعمّق أزمة بن سلمان، فقد لا يجد أموالا كافية للإنفاق على مشاريعه البرّاقة والمكلفة، والتي تحتاج مئات المليارات، كما يشير كتاب “الدم والنفط”.
كما ساهمت سياسات ابن سلماننفسه في تخويف المستثمرين الأجانب، فحتى الآن لم يبن ابن سلمانمؤسسات حكم تُذكر. وما زالت السلطة كلها تتركز في يد الملك وولي عهده والمقرّبين منهما. واعتقل ابن سلمانمئات من أثرياء المملكة، وصادر ممتلكاتٍ لهم خلال فترة وجيزة وبدون مساءلة أو شفافية، ونكّل مقرّبون منه بمعارضين وصحافيين ونشطاء وأمراء بشكل مخيف.
ولا تُسعف كل هذه الإجراءات ابن سلمانفي الفوز برهانه الأهم، الخاص بشرعية الإنجاز، لا شرعية القوة. وفي النهاية، يُبقي الكتاب الباب مفتوحا أمام ابن سلمانلاختيار ملامح بقية الصورة التي يريد رسمها لنفسه في السنوات وربما العقود المقبلة.
الواقع السعودي