امين عليوي
دراسة جديدة لخبير” رياليست” أمين صوصي علوي على موقع مركز أوتاوا لدراسات الشرق الأدنى
أظهرت تجربة الحرب الباردة أن خلايا التفكير ومراكز الأبحاث التي سيطر عليها لوبي المحافظين الجدد كانت تقوم مقام منصات حملات العلاقات العامة )البروباغاندا) تطوع السياسات لتصورات اللوبي المتطرفة بدل أن تقدم تقارير بحثية ـ كما تزعم ـ تساعد المهتمين وصانع القرار على تصويب الرؤى بناء على تصورات دقيقة للظواهر الجيوسياسية.
ولم يعد خفيا اليوم تورط رموز هذا «التيار الوظيفي» في توطين نظرية «صراع الحضارات»، لدى الرأي العام والعمل على تحقيقها في نفس الوقت بشكل مشبوه، بعد سنوات من إغراق مراكز التغذية المعرفية لصنّاع السياسات والمكتبات والخزانات العامة والخاصة ووسائل الإعلام بتقارير تختزل إشكالات دينية وثقافية واجتماعية وسياسية وتاريخية جد معقدة حول المجتمعات المسلمة في تصورات نمطية مكررة حول العنف والحريات والمرأة والأخر، وجعلها سمات رئيسية لهذه المجتمعات مفترضة «حتمية الصدام» بينها وبين بقية المجتمعات في العالم، حاولت هذه المنصات تلميع تيارات دينية متطرفة كتيار الإخوان المسلمين وتصويرها كشريك معتدل يمكن التعاون معه في تحقيق مشروع الشرق الأوسط الجديد )الكبير(، بدلا من الحكومات التي تتهمها بالديكتاتورية وهو ما أظهر نتائج عكسية خطيرة خلال الثورات كادت أن تؤدي لحرب عالمية فيما يشبه «نبوءات ذاتية التحقق».
ومن أشهر تلك التقارير ما نشر للباحثة الأمريكية شيريل بينارد زوجة السفير الأمريكي ذي الأصول الأفغانية زلماي خليل زاد، قدمتها لصالح مؤسسة راند كوربوريشن التابعة للجيش الأمريكي ، وتدعو فيها لتغيير المجتمعات المسلمة عبر المواد التعليمية والثقافية وهو ما يعد امتدادا للجهود، التي قدمها زوجها خليل زاد في الثمانينيات إلى جانب بريجينسكي أيام الرئيس الديموقراطي كارتر ، من بين تلك التقارير التي انجزتها بينارد بنفسها أو ضمن مجموعات بحثية نذكر تقريرا نشرته «مؤسسة راند» فرع قطر عام 2004 بعنوان (الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء والموارد والاستراتيجيات) ترصد فيه ملامح الضعف الذي أصاب العالم الإسلامي وتتعقب الثغرات التي يمكن استغلالها في تعزيز التناقضات الداخلية بين ما تتهم به المجتمعات المسلمة وما تقدمه من حلول وبدائل. قسمت الدراسة المسلمين الى أربعة فئات:
- أصوليون متشددون رافضين للقيم الغربية وقد خص التقرير بهذا الوصف السلفيين أو من تطلق عليهم الأدبيات الغربية اسم «الوهابية».
- تقليديون وعلى رأسهم الصوفية، ميالين إلى المحافظة وقد دعت الدراسة إلى دعمهم ضد الفئة الأولى والتمكين لهم بكل الوسائل.
- حدَاثيون متطلعون إلى تطويع الإسلام ليتماشى مع القيم الغربية )الإخوان المسلمين مثالا(.
- علمانيون ليبيراليون يريدون فصل الدين عن الدولة وهم الموالون للغرب، بشكل مطلق وتدعو الدراسة إلى إظهارهم على بقية الفئات وتقويتهم.
أما التقرير الثاني التي شاركت فيه شيريل بينارد فقد نشر سنة 2007 بعنوان (بناء شبكات مسلمة معتدلة) فقد أمعن في تضييق مفهوم الاعتدال وحصره في الفئة التي تنطبق عليها معايير ليبرالية صاغها التقرير في أحد عشر سؤالا يمكن تقسيمها إلى قسمين قسم يفسر الاعتدال بالتشبع بالقيم الليبرالية وقسم يجعل مفهوم التطرف رهينا بارتباط المسلم بالشريعة الإسلامية، ومن أهم توصيات هذا التقرير إنشاء شبكة من تصفهم بـ «المعتدلين» لتقويتهم داخل العالم الإسلامي، وهو ماكانت له نتائج خطيرة حيث وجدت تيارات متطرفة أضفى عليها التقرير صفة الاعتدال فرصة لمحاولة السيطرة على الدول العربية، التي سقطت في فوضى الثورات وأظهرت ممارسات متطرفة زادت في تقرير الصور النمطية التي روج لها مستشرقوا تيار المحافظين.
من المهم إدراك أن تفاصيل هذا التقرير المضلل قد ظهرت جلية في ثنايا خطاب أوباما في القاهرة (2009)، وشكلت المرتكز الأساسي في السياسات المتعلقة بالعالم الإسلامي وضمن أدوات السيطرة التي اعتمد عليها مفهوم القوة الذكية، فقد نصح تقرير راند بتغييرات أدت إلى صدامات داخلية عنيفة ساهمت في زعزعة استقرار العالم الإسلامي، وزرعت بوادر تقسيمه لإعادة تشكيله بما يتناسب مع مشاريع المحافظين الجدد وهو ما يؤكد ارتباطها بمفهوم «الفوضى الخلاقة» التي أعلنت عنها كوندوليزا رايس.
اندرجت تقارير شيريل بينارد ضمن سلسلة من التقارير قدمتها مؤسسة راند بايعاز من المحافظين الجدد وتمويل من المركب الصناعي العسكري لتوجيه سياسات البيت الأبيض نحو حرب تدريجية ضد العالم الإسلامي.
كما ساعدت تلك التقارير في إضفاء طابع علمي مزيف على التهم الجاهزة، التي وجهت للعالم الإسلامي وبررت مشاريع الخارجية الأمريكية خلال الفترة الممتدة من عهد بوش الابن إلى عهد أوباما وميزانياتها الضخمة التي رصدت بحجة «تجفيف منابع الإرهاب» والترويج للقيم الليبرالية، وقد اعتمدت توصياتها إنشاء مشاريع كبيرة صادق عليها الكونغرس الأمريكي وخصت المجالات التالية:
- مجال الإعلام حيث تم إنشاء كل من قناة الحرة وراديو سوا بميزانية تقارب 700 مليون دولار سنويا لنشر الرؤى الليبيرالية الأمريكية بلسان عربي، ومن المثير أن تمنع قناة الحرة من البث داخل الولايات المتحدة الأمريكية لأنها تعد في عرفهم القانوني مؤسسة البروبغاندا.
- في المجال السياسي، تم إحداث مبادرة الشراكة الأميركية الشرق أوسطية (ميبي) لتمويل ودعم منظمات المجتمع المدني، والناشطين السياسيين من أجل تحقيق هدفين رئيسيين أولهما جيوسياسي قريب المدى يتلخص في التمكين لنظرية الدومينو، التي بدأت باسقاط العراق أيام الجمهوريين وانتهت بالثورات التي انطلقت داخل العالم العربي في عهد الديمقراطيين وكان من بين نتائجها المباشرة إسقاط حكومات وتقسيم بعض الأقطار العربية، أما الهدف الثاني فهو ايديولوجي صرف بعيد المدى هدفه «لبرلة» العالم الإسلامي، مولت مبادرة (ميبي) مشاريعها داخل العالم الاسلامي بشكل غير مباشر عن طريق “هبات” تنموية بلغت بحسب الموقع الرسمي للمبادرة أكثر من 600 مليون دولار خصصت لما يزيد عن 1000 مشروع في 18 دولة من دول العالم الاسلامي .
بدأت المبادرة أيام الرئيس بوش الابن وأوكلت مهمة الإشراف عليها للمساعد الرئيسي لنائب وزير خارجية الولايات المتحدة لشؤون الشرق الأدنى ليز تشيني، ابنة نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني، ولم تتوقف هذه المبادرة مع وصول الديموقراطيين للرئاسة بل تزايدت بشكل كبير كما يتضح من خطاب أوباما بجامعة القاهرة، يقول هذا الأخير في معرض حديثه عن محاربة التطرف: «نعلم أن القوة العسكرية وحدها لن تكفي لحل المشاكل في كل من أفغانستان وباكستان، ولذلك وضعنا خطة لاستثمار 1.5 مليار دولار سنويا على مدى السنوات الخمس القادمة لإقامة شراكة مع الباكستانيين لبناء المدارس والمستشفيات والطرق والمؤسسات التجارية وكذلك توفير مئات الملايين لمساعدة النازحين، وهذا أيضا السبب وراء قيامنا بتخصيص ما يربو على 2.8 مليار دولار لمساعدة الأفغان على تنمية اقتصادهم وتوفير خدمات يعتمد عليها الشعب…». أسهب أوباما في نفس الخطاب في شرح تدابير التنمية الاقتصادية المطابقة لمبادرة (ميبي) التي أطلقها الجمهوريون وهو ما يؤكد تصريحات كولن بأول عند إعلانه في ديسمبر 2002 عن المبادرة أمام منظمة هيريتيدج المتطرفة قائلا: «الهدف من (ميبي) هو خلق آفاق للإصلاح على مدى بعيد وهو أمر لن يتحقق في سنة أو خمس سنوات».
- في مجال التعليم والثقافة وهي أخطر تلك المجالات على الإطلاق لما قد تحدثه من أثار عميقة وخطيرة على هوية المجتمعات المسلمة، فقد ركزت تقارير «راند» على الربط بين الإرهاب وبين التعليم الديني «غير المتسامح» الذي تزعم أنه منتشر في العالم الإسلامي، استخدم هذا الربط ـ رغم افتقاره إلى سند علمي – لتبرير الضغط على الدول الإسلامية من أجل تغيير مناهجها الدراسية بدعوى «تجفيف منابع الإرهاب»، ترجمت تلك التوصيات إلى تدابير تستهدف برامج التعليم مثل اقصاء حصص اللغة العربية وتقليل عدد ساعات المواد الدينية والعبث بمحتوياتها واستبدالها بمناهج ليبرالية تتناسب مع توصيات المحافظين الجدد .
حظيت شيريل بينارد، المعروفة بمواقفها المعادية للإسلام بدور بارز في هندسة تلك التدابير وفي بلورتها إلى مشاريع تعليمية ليبيرالية عندما كانت تشغل منصب مدير مبادرة شباب الشرق الأوسط ومبادرة الاستراتيجيات البديلة في مؤسسة راند، باشرت هذه الأخيرة ورشات تطوير مشروع راند التعليمي في أفغانستان منذ عام 2004 بمساعدة حكومة حامد كرزاي الذي تربطه مع زوجها علاقة صداقة منذ أن عملا معا في شركة يونوكال للبترول، قُدم المشروع في صيغته النهائية على شكل برنامج ثقافي متكامل وزع منه أكثر من 400 طقم من قبل الحكومة الأفغانية والمنظمات غير الحكومية في مختلف أنحاء أفغانستان، يضم كل واحد منها عشر حلقات مسجلة على شريط فيديو مدته 20 دقيقة للنسخة الأفغانية من برنامج الدمى الأمريكي الشهير شارع السمسم (سيزامي ستريت)، ترجم البرنامج للغة الدرية (سسمي كوشي) وعدلت بعض محتوياته من طرف خبراء أمريكيين وافغان ليتم تقبلها محليا، إلى جانب تلك الشرائط تضم الأطقم كتيب للمعلم يوضح طرق استخدام وسائل الإعلام كأداة تعليمية فعالة، وملصقا ولوازم مدرسية، وموسيقى أفغانية ورسائل من الرئيس الأفغاني حامد كرزاي ووزير خارجيته عبد الله عبد الله.
تعمدت خبيرة التضليل (spin doctor) شيريل بينارد اختيار الدعوة إلى القيم الليبرالية عبر برامج التسلية التعليمية كجزء من حملة البروباغاندا الاجتماعية التي قادتها راند في محاربة المدارس التقليدية بشكل غير مباشر بعدما أدركت أن التحريض المباشر ضدها قد يأتي بنتائج عكسية وربما يجعل الأفغان أكثر تمسكا بإرسال ابنائهم إليها.
يعرف عالم الاجتماع الفرنسي جاك ايلول هذا النوع من البروباغاندا بـ«عملية غرس المعايير والقيم التي تدمج الأفراد داخل المجتمع»، وقد نجحت هذه العملية بالفعل من خلال تجارب سابقة في الترويج للقيم الميركانتيلية الأمريكية (american way of life) عبر «دبلوماسية شارع سمسم» داخل أكثر المناطق حساسية في العالم الإسلامي, و لقي البرنامج بنسخته الخليجية (افتح يا سمسم) ترحيبا سياسيا وشعبيا كبيرا منذ بداية بثه في السبعينيات واستمر إنتاج مئات الحلقات منه في مراحل متفرقة خلال ثلاثين سنة ( 1979- 1982 – 1989- 2010 ), انتقل خلال هذه الفترة إلى دول عربية بعناوين مختلفة فحمل في مصر عنوان عالم سمسم (1997) وحكايات سمسم في الأردن (2003), بالإضافة إلى إنتاج فلسطيني إسرائيلي مشترك تحت عنوان صحراء سمسم بدأ بثه عام1996.
من السهل توقع النتائج التي ستحققها «دبلوماسية شارع سمسم»، خلال السنوات القادمة بالنظر إلى النجاحات، التي حققتها من قبل إلى جانب مواد ثقافية أمريكية أخرى في خلق بيئة مهيئة لتقبل تغيرات راديكالية على مستوى القيم. ويمكن استشراف بعض تلك التحولات المرتقبة من خلال النظر في نموذج استخدام بعض الدول العربية لهذا البرنامج وملحقاته في مجال التعليم:
- تهميش اللغة العربية: اعتمد مصمموا نسخ شارع سمسم الموجهة للعالم الإسلامي على اللغات المحلية في الدول غير الناطقة بالعربية، وعلى اللهجات بدلا عن الفصحى في الدول العربية وهو ما يمثل قطيعة واضحة مع مناهج التعليم التي تولي اللغة العربية اهمية بالغة، ومن المعلوم أن قضية اقصاء اللغة العربية من التعليم هي سياسة «كولونيالية»، قديمة حاولت المؤسسة الاستعمارية الأوروبية ومِن خلفها طائفة من المستشرقين (كارل فولرس, فلهلم سبيتا..)، تنفيذها بشكل مباشر عبر منع تدريسها قسريا وبشكل غير مباشر عبر دعم الكتابات التي تنتقص من الفصحى وتعظم من شأن العامية وهي خطوة خطيرة قد خدمت من قبل فكرة فصل الدول الإسلامية عن الدول العربية كما تخدم الآن مشروع المحافظين الجدد (الشرق الأوسط الكبير) القائم على تقسيم العالم الإسلامي على أسس عرقية وقبلية وطائفية، ومن المعلوم أن اللغة العربية كانت صلة الوصل التي ربطت العالم الإسلامي ببعضه لانها تدخل ضمن علوم الألة التي تعد بوابة لدراسة علوم الدين التي كانت ضمن المناهج التقليدية.
- التطبيع مع إسرائيل: بعد أن جمد الكونغرس الأمريكي تمويله للنسخة الفلسطينية من شارع سمسم عام 2012 نتيجة لطلب الفلسطينيين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، صرح داني لابين وهو أحد مسؤولي القناة التلفزيونية الإسرائيلية المنتجة للمسلسل قائلا: «وقف تمويل المسلسل خطوة بائسة، الأطفال، سواء كانوا فلسطينيين أو إسرائيليين، لا ذنب لهم، وليس من العدل معاقبتهم بسبب سلوك سياسي لا دور لهم به»، من المؤكد أن امتعاض داني لابين من القرار الأمريكي هو خوف على إضاعة المكتسبات التي حققها البرنامج خلال ما يقارب 15 عاما من نشر ثقافة التطبيع لدى الفئة العمرية من 4 إلى 6 سنوات وهو ذات الموقف الذي عبرت عنه خارجية حكومة أوباما ممثلة في قنصليتها بمدينة القدس حيث صرحت لقناة (بي بي سي) البريطانية أن الإدارة الأمريكية ستواصل العمل مع الكونغرس لبحث سبل تحويل تلك المساعدات مستقبلا لكونها تشكل “مصلحة أمريكية وطنية”، لم تكن تلك أول مرة تعترف فيها الخارجية الأمريكية بدور برنامج شارع السمسم في تحقيق مصالحها الجيوسياسية بالمنطقة التي تطلق عليها اسم «الشرق الأوسط»، ومن المعلوم أن التطبيع مع إسرائيل هو أحد تلك المصالح المعلنة والتي تترجم إلى دعم مادي لبرامج التعليم بفلسطين المتضمنة لمواضيع التسامح وتقبل الأخر ونبذ العنف وهي ذات المواضيع التي جعلت محورية في سيناريوهات حلقات شارع سمسم الموجهة لكل من فلسطين والأردن.
- وينقل موقع وزارة الخارجية الأمريكية تصريحات لنائبة رئيس مشغل سمسم لشؤون التنمية والأسواق الجديدة شاري روزنفيلد في مقابلة لنشرة واشنطن تقول فيها «في الوقت الذي يبث فيه التليفزيون ووسائل الإعلام الأخرى أخبارا صعبة وأنباءا سيئة تعمل حكايات سمسم على تشجيع الأطفال على فهم وتقدير أوجه الشبه والاختلاف في ثقافاتهم وثقافات الآخرين»، وأوضحت روزنفيلد بحسب الموقع على أن محور كل حلقة من برامج حكايات سمسم النابعة من سلسلة برامج الأطفال الأصلي «شارع سمسم» يدور حول موضوعات تشجع على التسامح والتمكين الذاتي للطفل والتعاطف والاحترام…وتضيف قائلة «تبين من إحدى الدراسات أن الأطفال الذين يشاهدون حكايات سمسم أظهروا ميلا أكبر نحو رفض الصور النمطية السلبية وانتهجوا أساليب بناءة لحل المشاكل ونسبوا المزايا الإيجابية للغير».
لكن التدقيق في المحتويات التي يروج لها شارع سمسم يتضح أنها سطحية ولن تساهم في حل ظواهر العنف المتبادل في تلك المنطقة والتي في حقيقتها سياسية صرفة ولا علاقة لها بميل ثقافي للكراهية أو العنف.
- في مجال الحرب على الارهاب: وضعت الخارجية الأمريكية برنامج شارع سمسم ضمن الآليات التربوية المتبعة فيما تسميه «حربا على الإرهاب», يشير الفصل السادس المخصص للتعليم الأساسي في البلدان ذات الأغلبية المسلمة من تقرير الخارجية المعنون: «التقارير القُطرية حول الإرهاب 2010» إلى نجاح تجربة شارع سمسم في بنغلاديش (سسم بور) حيث بلغ بحسب التقرير عدد مشاهديه 10 ملايين طفل اسبوعيا, و في إندونيسيا بلغ عدد المشاركين في ورشة عالم سمسم (جالان سِمسَمَ) 7,5 مليون طفل, كما يذكر ذات التقرير أن نسبة متابعة عالم سمسم قد بلغت 85 % من أطفال مصر, واستفاد من المحتوى التربوي لحكايات سمسم وحصل على الأدوات المدرسية المرفقة به ما يقارب 10,000 طفل أردني، لكن ظاهرة الإرهاب العابرة للقارات التي ظهرت بشكل خطير في فترة أوباما تبين ارتباطها بظواهر انعدام الاستقرار الجيوسياسي التي فتحت الفرصة لجماعات إرهابية بالترويج لأفكارهم المتطرفة مستغلة الفراغ أكثر منها القيم التي يتربى عليها المسلمون وقد بينت التجربة العملية انخراط شباب من بقاع العالم في الإرهاب، رغم كونهم من مجتمعات غير مسلمة ولم يتربوا على القيم التي حاولت تقارير راند نسج روابط وهمية بينها وبين التطرف والإرهاب.
- الجندر (النوع): يستخدم الموقع الرسمي للشركة المنتجة لمسلسل «شارع سمسم» مصطلح النوع (Gender) بدلا عن الجنس (ذكر، انثى) في حديثه عن الدراسات التي تثبت نجاح شارع سمسم في تلقين مفهوم مساواة النوع Gender Equality للأطفال في سن ما قبل التمدرس (من 4 الى 6 سنوات) في كل من مصر ونيجيريا وبنغلاديش وغيرها من الأقطار المسلمة، وهو توجه «بيداغوجي»، يحاول الوصول إلى أضعف حلقات المجتمعات (الطفل قبل سن التمدرس) متخطيا حواجز المؤسسات التي قاومت هذه المفاهيم.
وقد حذرت التقارير والدراسات التي قدمتها مجامع البحوث والمؤسسات المختصة في قضايا الطفل والمرأة من مصطلح مساواة الجندر Gender Equality الذي بدأ تداوله بعد تنظيم الأمم المتحدة لأربع مؤتمرات عالمية للمرأة تدعو فيها إلى حق الإنسان في اختيار هويته الجنسية وتغييرها بغض النظر عن طبيعته البيولوجية و الغاء المفهوم التقليدي للأسرة التي تنبني على أب وأم لتتسع لقبول «أسر» تتكون من زوجين من نفس الجنس, كما دعت إلى الحريات الجنسية وإلى إبطال القوانين التي تجرم الممارسات الجنسية خارج إطار الزواج. ولتحقيق تلك التوصيات فرضت الأمم المتحدة على الدول المشاركة إحداث تغيرات جذرية في الإعلام والمدارس والمؤسسات الدينية للقضاء على ما تسميه بـ «الأدوار النمطية للمرأة والرجل»، تناغمت مضامين شارع سمسم الموجهة للعالم الإسلامي مع أجندة المساواة «الجندرية» وهو ما يعبر عنه الموقع الرسمي للمؤسسة المنتجة للبرنامج بشكل صريح في تفسيره لأسباب تفاوت حظوظ التعليم بين الإناث والذكور :«تعود في جزء منها، إلى التحيزات الثقافية حول أدوار الفتيات وقدراتهن، تظل آمال المجتمع في المرأة ضعيفة، بما في ذلك، عند الأطفال أنفسهم، ولكن مثلما يمكن للثقافة أن تغلق العقول والأبواب، لديها القدرة أيضا على فتحها، تهدف برامجنا التعليمية في جميع أنحاء العالم إلى تحفيز الطموحات وتشجيع الفتيات على الحلم بشكل أكبر»، وقد اعتمد كتاب سيناريو البرنامج على وضع شخصيات من الدمى يمكن للإناث أن تتشبه بها مثل شخصية خوخة في نسخة «عالم سمسم المصرية» أو شخصية تُكتُكي في نسخة بنغلاديش وكامي في النسخة النيجيرية. ومن أوجه التطابق الأخرى لمضامين شارع سمسم مع توصيات مؤتمرات الجندر التي تفرض على الدول توعية الصغار بما وصفته بـ «الممارسة الآمنة للجنس» بإدماج تعليم الممارسة الجنسية (بما فيها المثلية) في المناهج الدراسية، يذكر موقع البرنامج مثال تجربة نسخة نيجيريا الناجحة حيث التقت الدمية كامي بدمية طيبة مصابة بفيروس الايدز ابدى بعدها 93 % من الاطفال المتابعين للبرنامج موافقتهم على اللعب مع طفل مصاب بالايدز مقابل 38 % قبل ان تلتقي كامي بتلك الدمية.
هذه عينة من «القيم» التي مرت عبر أطول شارع في العالم لتصل إلى حدود أفغانستان بعد أكثر من أربعين عاما على انطلاق أول موسم من مسلسل شارع سمسم في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1969 بمقطع هزلي يبدأ بدميتين إناث تنظر إحداههما إلى الأخرى وتقول: «يمكننا أن نغني أغنية جميلة إذا انضم إلينا شخص أخر». ترد الأخرى: صحيح! فتدخل دمية أخرى، ذكر، بمظهر مضحك، أشعث الرأس كث اللحية والحاجبين سمي في مرحلة لاحقة «بيب بيبادوتا» يقترب منهما ليقول: «منا منا». فتسأله إحداهما: مرحبا، تريد أن تغني معنا؟ فيدنو منها وكأنه يخبرها بسر ليقول مرة أخرى: منا منا، ترد الأولى: أليس هذا اسم الأغنية؟ تجيبها الثانية: أظن ذلك، فيبدأ بيبادوتا بهز رأسه متراقصا، يغني أمام الكاميرا ومِن خلفه الدميتان ترددان: منا منا.با تي باتي بي…إلى أخر الأغنية، لم تكن أغنية هذا العرض الساخر، منا منا (Mahna Mahna) سوى إعادة لأغنية ظهرت بسنة قبل بداية شارع سمسم في فيلم جنسي (السويد جنة أم نار) للمخرج الإيطالي صاحب الأعمال الرديئة، لويتجي سكاتيني.
هناك موقف أخر يثبت تورط مؤسسة شارع سمسم في بث مفاهيم الجندر، بعد أن أصبحت دميتي ايرني وبيرت (أنيس وبدر في النسخة العربية) رمزا للمثلية عبر العالم لما تمثلانه من تقارب وصل حد نومهما في غرفة واحدة علق على حائطها صورة لهما تشبه صور الأزواج، يشتركان في كل شيء، وقد أثارت عريضة تدعو إلى تزويج الشخصيتين جدلا واسعا في وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية، دفع القائمين على المؤسسة المنتجة إلى حسم الموضوع بتعليق على صفحتها الرسمية يقول: «بيرت وايرني أفضل صديقين، تم إنشاؤها لتعليم أطفال ما قبل التمدرس، إن بإمكان الناس أن يصبحوا أصدقاء جيدين مع الذين يختلفون معهم كثيرا، على الرغم من كونهما شخصيتان تحملان صفات الذكور وتمتلكان عديد من الخصائص البشرية (كما هو حال معظم دمى شارع سمسم) إلا أنها تظل دمى، وليس لديها أي هوية جنسية.«في هذه الجملة التي انهي بها التعليق (ليس لديها أي هوية جنسية) تلخيص واضح لمفهوم الجندر وتبّني صريح لتعريف منظمة الصحة العالمية للهوية الجندرية: «هو المصطلح الذي يُفيد استعماله وصفَ الخصائص التي يحملها الرجل والمرأة كصِفات مركبة اجتماعية، لا علاقة لها بالاختلافات العُضوية”.
تقول الموسوعة البريطانية «الهوية الجندرية هي شعور الإنسان بنفسه كذكر أو أنثى، وفي الأعم الأغلب فإن الهوية الجندرية والخصائص العضوية تكون على اتفاق (أو تكون واحدة)، ولكن هناك حالات لا يرتبط فيها شعور الإنسان بخصائصه العضوية، ولا يكون هناك توافق بين الصفات العضوية وهويته الجندرية (أي شعوره بالذكورة أو بالأنوثة)، والهوية الجندرية ليست ثابتة بالولادة، بل تؤثر فيها العوامل النفسية والاجتماعية بتشكيل نواة الهوية الجندرية ».