أكراد سوريا.. بين الجغرافية والهوية والأجندة الأمريكية

877

بكثير من الواقعية، لم تعد العلاقة الأمريكية الكردية، تتخذ مناحي غامضة أو تؤسس لـ سيناريوهات قوامها تعقيد الحلول في سوريا، أو الالتفاف على منحى التطورات السورية بشقيها السياسي أو العسكري، بل بات من الواضح أن ماهية هذه العلاقة وجدت في عناوين السيطرة والنفوذ وتحقيق الغايات، مُنطلقاً لصوغ التوجهات الكردية في شمال شرق سوريا.

ضمن هذا الإطار، وإنطلاقاً من النهج السياسي الذي تعتمده الدول الغربية وتحديداً الولايات المتحدة في هندسة علاقتها مع الكرد، نجد أن هذه السياسة المتبّعة تتّسم بالتقلبية في الكثير من جُزئياتها، نظراً لاعتمادها على مبدأ المصالح والمنافع والصفقات، وبطبيعة الحال لا يوجد في السياسة اتفاق مُطلق أو تفاهم مديد، فهذا مرتبط بالتقلّبات السياسية والعسكرية، ولاشك بأن المُتابع لتطوّرات الشأن السوري، يُدرك بأن حجم المصالح الأميركية في سوريا، قادها إلى إنشاء شبكة تحالفات أرادت بها التوغّل والسيطرة بأذرع عسكرية كـ داعش وقسد.

الكرد باتوا بحسب الاستراتيجية الأميركية أداة يُراد منها الالتفاف على أية متغيّرات تأتي خارج سياق النهج الأميركي في سوريا، ومن المفيد أن نُذكر، بأن العلاقة بين واشنطن والكرد شهدت الكثير من التجاذبات المرتبطة أصلاً بتطوّرات الحرب على سوريا، وبالتالي فإن السياسة الأميركية لا ترتكز على مبادئ ومعايير ثابتة، بل تعتمد على معايير متقلّبة مرتبطة بالمنافع والصفقات المُربحة، والتي تؤسّس لهدف أميركي بعيد المدى، وعليه فإن واشنطن اختارت اللعب بالورقة الكردية من أجل مواصلة سياساتها في سوريا، وضرب أيّ منجز عسكري سوري، قد يُترجِم انتصاراً سياسياً يؤدّي إلى البدء الفعلي والحقيقي بخارطة طريق تُخرِج سوريا من حربها.

بهذا المعنى، بات جلياً أن واشنطن بدأت فعلياً بهندسة واقع جديد شمال شرق سوريا؛ هو واقع يمتاز بالمراوحة بين نقيضين إحداهما تُمثله تركيا وهواجس نظامها من العلاقة الامريكية الكردية، والأخر رغبة الكرد بالانفصال وتشكيل كيان مستقل، وما بين هذين النقيضين تتجلى رغبة أمريكية بتعقيد جُل المسارات السياسية في سوريا، ومحاولة ضمنية للتخلي عن الكرد ووضعهم في إطار ما يُسمى المعارضة السورية، وذلك وفق مُعطيين:
الأول- افتتاح القوات الأمريكية معسكراً لاتباعها من عناصر ميليشيا قوات سوريا الديمقراطية قسد في “الشدادي” جنوب الحسكة، وزعمت أنه بهدف تدريبهم على مكافحة الشغب بمراكز احتجاز عناصر داعش. لكن هناك هدف استراتيجي بعيد المدى تريد واشنطن العمل على حيثياته، بُغية استهداف تفاهمات دمشق مع كردها.
وعطفاً على ما سبق الذي يندرج ضمن الاجندة الامريكية الرامية لإحداث تعقيدات بين دمشق وكردها، فقد نشرت الإدارة الذاتية الكردية شمال سوريا، بياناً حمّلت فيه دمشق المسؤولية عن “استمرار العنف ونبذ الحوار والتوافق السوري”، بالتزامن مع توسع التداعيات الاقتصادية لحصار واشنطن وعقوباتها، التي تهدف إلى إجبار دمشق على قبول العملية السياسية.
البيان ذاته، الذي جاء فيه أنه “مع سريان مفعول قانون قيصر “قانون أميركي يفرض عقوبات على الحكومة السورية” بشكل خاص، سيكون لذلك تأثير في كل المناطق السورية، بما فيها مناطق الإدارة الذاتية، التي هي جزء من سوريا، لكون التعاملات مع الداخل السوري قائمة، وتتأثر كل القطاعات بهذه العقوبات”. وبحسب البيان، فإنّ هذا الوضع “يخلق تبعات سلبيّة على المناطق الكردية، ويخلق مشاكل كبيرة”.
الثاني- عطفاً على المُعطى الأول، ولاستثمار الكرد في المعادلة الامريكية الجديدة، قام المبعوث الأمريكي لـ شمال شرق سوريا “وليام روباك” في وقت سابق، بزيارة التقى خلالها مع 22 حزباً كردياً، بُغية التباحث حول القضايا العسكرية والإدارية العالقة. وتواردت أنباء عن توصل كل من المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي إلى اتفاق سياسي.

في هذ الإطار، أوضحت العديد من المصادر أن “الاتفاق يشمل المسائل المتعلقة بمستقبل كردستان سوريا، ومنها الموقف من الحكومة السورية والمعارضة، والعلاقات مع دول الجوار والعديد من القضايا الأخرى ذات الاهتمام المشترك”. وأكدت المصادر أن فرنسا أيضًا تدعم مشروع الولايات المتحدة لتحقيق التقارب بين الأطراف السياسية الكردية.

ليس قليلاً عدد المرات التي عملت بها واشنطن، لتوحيد القوى الكردية، ومحاولة زجها في صفوف ما يُسمى المعارضة السورية، لكن المحاولات الأمريكية فشلت في مرات عديدة، جراء الأجندة الكردية الرامية إلى تشكيل كيان مستقل شمال شرق سوريا، واليوم يبدو واضحاً أن الخطوات الأمريكية لتوحيد الأحزاب السياسية الكردية، يُمثل أرضية سياسية لمشروع تقوده واشنطن “بمعية” باريس، وذلك بُغية دفع الأحزاب الكردية للتنسيق مع ما يُسمى الإدارة الذاتية، وتشكيل منصة معارضة تُضاف للمنصات المعارضة المترامية هنا وهناك، في المقابل يُصّر الكرد على حصر الحوار معهم وفق إطار الكيان السياسي المستقل، للحفاظ على مكاسبهم الميدانية وإنشاء إقليم فيدرالي.

ما بين المُعطيين وبموضوعية، وبصرف النظر عن الرغبات الأمريكية حيال الكرد، ومدى استجابة الكرد أو التماهي مع الخطة الامريكية، لكن من الواضح أن هذه المبادرات الأمريكية لـ توحيد الكرد، تُقرأ فقط من زاوية تشكيل جبهة على طرفي الحدود تواجه “التوسع الروسي والنفوذ الإيراني” في سوريا، فضلاً عن هدف استراتيجي يتمحور حول استمرار تعقيد مسار الحل السياسي في سوريا.

وفي جُزئية تُمثل تحدياً امريكياً، تتمحور حول تغير ملامح الخارطة العسكرية لصالح الدولة السورية، فإن هذا الأمر يتطلّب مقاربة أميركية داخل أروقة الإدارة الأميركية ما بين استمرار تقديم الدعم للكرد، وبين التخلّي عنهم خوفاً من تداعيات استمرار الحرب على سوريا، فالاعتماد على فَهْم شكل المخاطر القادمة في سوريا، والتي من الممكن أن تنعكس اقليمياً ودولياً، وتؤثّر على ثوابت العلاقة بين واشنطن والكرد، خاصة أن التطورات المتسارعة في الشأن السوري، شكّلت عامل ضغط على واشنطن والكرد، بالتالي سيكون الكرد في المرحلة القادمة أمام الكثير من التساؤلات التي تحتمل دراسة الخيارات، خاصة أن الثوابت السيادية السورية تُحتّم عليهم النظر بعين المنطق للمتغيّرات، والابتعاد بحكمة عن الأميركي، فأية مراهنة على إنشاء اقليم كردي في الشمال السوري، بات غير مطروح بالاستناد للمتغيّرات التي فرضتها الدولة السورية وجيشها، فمن غير المنطقي أن يقوم الكرد بالبحث عن هويتهم الوطنية في جيب الأمريكي، في وقت تُشرع دمشق أبوابها لهم، ليس من منطلق الانصياع للرغبات الكردية، وإنما من بُعد وطني جامع للسوريين كافة.

في المحصلة، كثيرة هي المناسبات التي أضاعها الكرد في تفاصيل الحرب على سوريا، وعلى الرغم من اتفاقهم مع دمشق برعاية روسية، عُقب النوايا التركية بالهجوم على مناطق تواجدهم، الامر الذي أدى إلى انتشار واسع للجيش السوري في مناطق شمال شرق سوريا، لكنهم لا زالوا يراهنون على تغير الوقائع، غير مدركين بأن المنطقة مقبلة على جُملة من التطورات، التي ستُقصي واشنطن وتُخرجها من دائرة أي تأثير، وبالتالي فإن الكرد سيصبحون هدفاً سهل المنال للتركي، ولا مخرج من هذا المأزق الذي فرضته العلاقة الإشكالية بين واشنطن والكرد، إلا بالتوجّه إلى أبواب دمشق، للنجاة من الدوّامة الأميركية والإعصار التركي الذي قد يضرب الكرد في أية إشارة أميركية قادمة.

أمجد إسماعيل الآغا

اترك تعليق

قم باضافة تعليق
الرجاء ادخال اسمك هنا