تقرير آفاق الاقتصاد العالمي

525

المصدر : صندوق النقد الدولي

تقديم
إن هذه الأزمة منقطعة النظير. أولا، هناك صدمة كبيرة. فمن المرجح أن تتضاءل الخسائر التي أشعلت فتيل الأزمة المالية العالمية أمام خسائر الناتج المصاحبة لهذا الطارئ الصحي وإجراءات الاحتواء المرتبطة به. ثانيا، على غرار أي حرب أو أزمة سياسية، هناك عدم يقين شديد ومستمر بشأن مدة الصدمة ودرجة حدتها. ثالثا، في ظل الظروف الراهنة، هناك دور مختلف تماما للسياسة الاقتصادية. ففي الأزمات العادية، يسعى صناع السياسات إلى تشجيع النشاط الاقتصادي عن طريق تحفيز الطلب الكلي بأسرع وقت ممكن. أما هذه المرة، فمعظم الأزمة يرجع إلى تبعات إجراءات الاحتواء اللازمة، مما يزيد من صعوبة تحفيز النشاط، ويجعله أمرا غير مرغوب، على الأقل بالنسبة للقطاعات الأكثر تضررا.
وتعكس تنبؤات الاقتصاد العالمي الواردة في هذا التقرير فهمنا الحالي لمسار الجائحة وإجراءات الصحة العامة اللازمة لإبطاء انتشار الفيروس وحماية الأرواح وإتاحة الفرصة لنظم الرعاية الصحية كي تتعامل معها على نحو فعال. وفي هذا الصدد، استفدنا من عدة حوارات مع متخصصين في الوبائيات، وخبراء في الصحة العامة، ومتخصصين في الأمراض المعدية ممن يعملون على إيجاد أدوية تعالج فيروس كورونا (كوفيد-19). ولكن يظل هناك قدر كبير من عدم اليقين حول التنبؤات، والجائحة نفسها، وتداعياتها الاقتصادية الكلية، والضغوط المصاحبة لها في الأسواق المالية وأسواق السلع الأولية.
ومن المرجح جدا أن يمر الاقتصاد العالمي هذا العام بأسوأ ركود تَعَرَّض له منذ سنوات “الكساد الكبير”، متجاوزا في ذلك كل تداعيات الأزمة المالية العالمية منذ 10 سنوات. فمن المتوقع أن يتسبب “الإغلاق العام الكبير”، كما يجوز أن نسميه، في انكماش النمو العالمي بشدة. ومن المتوقع حدوث تعافٍ جزئي في عام 2021، حيث يصبح النمو أعلى من معدلات الاتجاه العام، ولكن مستوى إجمالي الناتج المحلي سيظل أدنى من الاتجاه العام في فترة ما قبل الفيروس، مع قدر كبير من عدم اليقين حول مدى قوة التعافي. ومن الممكن، بل وربما من الأرجح، أن تكون نتائج النمو أسوأ بكثير. وسيحدث هذا إذا استمرت الجائحة وإجراءات الاحتواء مدة أطول، أو وقع ضرر أكثر حدة على اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، أو استمر تشديد الأوضاع المالية، أو إذا ظهرت آثار غائرة واسعة النطاق بسبب إغلاق الشركات واستمرار البطالة.
وسيتعين التعامل مع هذه الأزمة على مرحلتين: مرحلة للاحتواء وتحقيق الاستقرار تليها مرحلة للتعافي. وفي كلا المرحلتين، هناك دور حاسم لكل من الصحة العامة والسياسات الاقتصادية. وتكتسب عمليات الحجر الصحي والإغلاق العام والتباعد الاجتماعي أهمية حاسمة في إبطاء انتقال العدوى، مما يعطي نظام الرعاية الصحية وقتا كافيا للتعامل مع طفرة الطلب على خدماته وإمهال الباحثين وقتا كافيا لمحاولة إيجاد أدوية ولقاح. ويمكن أن تساعد هذه الإجراءات على تجنب ركود النشاط الاقتصادي بصورة أشد وأطول أمدا وتهيئة السبيل لتعافي الاقتصاد.
ومن الضروري زيادة الإنفاق على الرعاية الصحية لضمان توافر القدرات والموارد اللازمة لنظم الرعاية الصحية. وينبغي النظر في إعطاء معاملة خاصة للمشتغلين بالمهن الطبية – الذين يقفون في الصفوف الأمامية لمكافحة الجائحة – بما في ذلك، على سبيل المثال، إعطاؤهم منحا لتعليم أسرهم أو تعويضات سخية للورثة في حالة الوفاة.
وبينما الاقتصاد في حالة توقف، سيكون على صناع السياسات التأكد من أن الأفراد قادرون على سد احتياجاتهم وأن مؤسسات الأعمال يمكن أن تنتعش من جديد بمجرد مرور المراحل الحادة من الجائحة. ويتطلب هذا إجراءات جوهرية موجهة من خلال المالية العامة والسياسة النقدية والقطاع المالي للحفاظ على الروابط الاقتصادية بين العمالة والشركات والمقرضين والمقترضين، مما يحافظ على سلامة البنية التحتية الاقتصادية والمالية للمجتمع. ففي بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان النامية ذات القطاعات غير الرسمية الكبيرة، على سبيل المثال، يمكن استخدام التكنولوجيات الرقمية الجديدة لتقديم الدعم الموجه لمستحقيه. ومن المشجع أن صناع السياسات في كثير من البلدان ارتفعوا إلى مستوى هذا التحدي غير المسبوق بالإسراع باعتماد مجموعة واسعة من الإجراءات.
ويمكن أن يؤدي تقديم تسهيلات واسعة النطاق للتحفيز وتوفير السيولة بهدف الحد من الضغوط النظامية في النظام المالي إلى رفع مستوى الثقة والحيلولة دون حدوث انكماش أعمق في الطلب عن طريق الحد من توسع الصدمة في النظام المالي وتعزيز توقعات التعافي الاقتصادي في نهاية المطاف. وهنا أيضا ساهمت الإجراءات العاجلة والكبيرة من جانب عدة بنوك مركزية بدور حيوي وأدت إلى تجنب هبوط أكثر حدة في أسعار الأصول ومستوى الثقة. ومن الإجراءات التي اكتسبت أهمية خاصة في هذا الصدد تفعيل وإنشاء خطوط لتبادل العملات بين البنوك المركزية الكبرى من أجل توفير السيولة الدولية.

وسيتغير المشهد الاقتصادي كثيرا طوال مدة الأزمة وربما لفترة أطول من ذلك مع زيادة انخراط الحكومات والبنوك المركزية في الاقتصاد. والاقتصادات المتقدمة في وضع أفضل لتجاوز الأزمة بما تتمتع به من قدرات قوية في مجال الحوكمة، ونظم رعاية صحية جيدة التجهيز، وميزة إصدار عملات الاحتياطي. ولكن هناك العديد من اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية التي لا تملك أصولا مماثلة وتواجه أزمات صحية واقتصادية ومالية متزامنة، وستكون بحاجة إلى مساعدة الدائنين الثنائيين من الاقتصادات المتقدمة ومساعدة المؤسسات المالية الدولية.
وسيكون التعاون متعدد الأطراف ضروريا. فبالإضافة إلى تبادل المعدات والخبرة المتخصصة لتعزيز نظم الرعاية الصحية حول العالم، يجب القيام بجهد عالمي يضمن للبلدان الغنية والفقيرة على السواء الحصول على الأدوية واللقاحات المطلوبة لفيروس كوفيد-19 فور التوصل إليها. وسيحتاج المجتمع الدولي أيضا إلى تكثيف المساعدات المالية لكثير من اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية. وبالنسبة للبلدان التي تواجه مدفوعات كبيرة لسداد ديونها، قد يتعين النظر في تأجيل سداد الدين وإعادة هيكلته.
وأخيرا، يجدر التفكير في إجراءات يمكن اعتمادها لمنع تكرار أحداث كهذه الجائحة. فيمكن تعزيز أمن الصحة العامة والاقتصاد العالمي معا من خلال تحسينات في البنية التحتية للصحة العامة العالمية – زيادة تبادل المعلومات عن الأمراض المعدية غير المعتادة وتعزيز الطابع التلقائي لهذا التبادل، والتبكير في اختبارات الكشف عن الفيروس وتوسيع نطاقها، وبناء مخزون عالمي من معدات الوقاية الشخصية، ووضع بروتوكولات تحظر القيود على التجارة في المستلزمات الضرورية.
إن لدينا من أسباب التفاؤل الكثير، رغم الظروف العصيبة. ففي البلدان الأكثر إصابة بهذه الفاشية، انخفض عدد الحالات الجديدة بعد تطبيق ممارسات التباعد الاجتماعي بقوة. وهناك آفاق واعدة أيضا يحملها العمل غير المسبوق الجاري الآن على قدم وساق لإيجاد علاجات ولقاحات مضادة للفيروس. وستساعد إجراءات السياسة الاقتصادية العاجلة والكبيرة التي اتخذت في كثير من البلدان على حماية الأفراد والمؤسسات، مما يحول دون حدوث معاناة اقتصادية أكثر حدة ويخلق الظروف المواتية للتعافي.
وفي آخر مرة واجه فيها الاقتصاد العالمي أزمة بهذا الحجم في ثلاثينات القرن الماضي، اضطرت البلدان، في غياب مقرض أخير متعدد الأطراف، على التكالب للحصول على السيولة الدولية، متبعة في ذلك سياسات تجارية مركنتيلية لا طائل من ورائها، مما زاد من تفاقم الهبوط الاقتصادي العالمي. وهناك فارق مهم في الأزمة الحالية، وهو أن لدينا شبكة أمان مالي عالمية أقوى – وفي مركزها الصندوق – منخرطة بالفعل في تقديم مساعدات للبلدان المعرضة للخطر.
وقد مرت عشر سنوات على قيام البلدان الأعضاء في الصندوق بزيادة موارده لمساعدة البلدان التي كانت تمر بضائقة مالية أثناء الأزمة المالية العالمية في الفترة 2008-2009. والآن، يعود الصندوق إلى الانخراط النشط في دعم الجهود المبذولة على مستوى السياسات الوطنية للحد من الأضرار الاقتصادية، من خلال تسهيلاته الموجهة للإقراض، بما في ذلك التمويل الطارئ الذي يقوم على الصرف العاجل للموارد المطلوبة. ومرة أخرى تُبادر بلدانه الأعضاء بزيادة موارده من جديد في سياق ما يبدو أنه أزمة أكبر مما شهدناه في العقد الماضي. وستساهم هذه الجهود بالكثير نحو ضمان عودة الاقتصاد العالمي للوقوف على قدم راسخة بعد انحسار الجائحة، وإعادة فتح أماكن العمل والمدارس، وتحسن خَلْق الوظائف، وعودة المستهلكين إلى الأماكن العامة – وباختصار، ضمان إمكانية عودتنا إلى أوضاعنا الاقتصادية المألوفة وتفاعلاتنا الاجتماعية المعتادة التي كنا نعتبرها أمرا مسلما به منذ وقت غير طويل.

اترك تعليق

قم باضافة تعليق
الرجاء ادخال اسمك هنا