وضاح عيسى – سوريا
يستمر الملف النووي الإيراني متصدراً المشهد الدولي من حيث المداولات والسجالات مع استمرار التحريض الإسرائيلي وإطلاق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وعيده وتهديده بنقض الاتفاق أو الانسحاب منه بعد مرور ثلاث سنوات على توقيعه بين إيران والدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن (روسيا، والولايات المتحدة، الصين، بريطانيا وفرنسا) إضافة إلى ألمانيا، ورغم أن إدارة ترامب لا تستطيع نقض أو إلغاء الاتفاق منفردة، لكنها لا تكف عن التهديد بالانسحاب منه وتحريض الشركاء الأوربيين لإلغائه أو تعديله وفق الشروط الأمريكية.
محاولات ثني الأمريكي ودفعه للعدول عن قراره ولاسيما من قبل الشركاء الأوروبيين لم تتوقف ولم تثمر في آن في إقناعه حتى هذه اللحظة، لكن ما يثير الدهشة والاستغراب قدرة الأمريكي في الوقت المستقطع على استمالة الشركاء الأوروبيين، رغم تحفظهم، وتشجيعهم على قبول الموقف الأمريكي الداعي لتعديل الاتفاق أو الانسحاب منه، وهو ما ترفضه الصين وروسيا وأيضاً إيران جملة وتفصيلاً، فماذا ينتظر الاتفاق النووي خصوصاً أن منتصف الشهر الجاري سيصدر ترامب قراره النهائي، هل يبقى رهناً للإدارة الأمريكية ومن يتبعها من الأوروبيون في حال استمروا بانصياعهم للضغط الأمريكي، وهل ستنسحب واشنطن وحدها أو معها الأوروبيون من الاتفاق، أو ستتم إعادة التفاوض، أم إن عوامل وأسباباً ستقف في وجه هذا التحرك الأمريكي وتحدّ منه؟
ثمن الانسحاب من الاتفاق كبير جداً، وهو ما يدركه الأمريكي جيداً قبل سواه من الشركاء، ولو كان يستطيع تحمل نتائجه وحده لانسحب فعلاً، وإلا لماذا التأجيل؟ أم إنه ينتظر دخول الأوروبيين -«لندن وباريس وبرلين» في قاطرته بحيث لا يكون وحيداً في مواجهة تبعات قرار كهذا، أم لغايات أخرى؟
في مطلق الأحوال، إذا استمر الأمريكي في تعنته بتعديل الاتفاق الذي ترفضه إيران والدول الموقعة بمن فيها الأوروبية قبل الضغط عليها، أو الانسحاب منه فإنه ستتمخض عنه عدة احتمالات، أسوؤها فسخ الاتفاق النووي واتخاذ خطوات تجاه إيران وربما الدفع باتجاه المواجهة المباشرة معها أو الحرب بالوكالة، لكن إيران لم ولن تقف مكتوفة الأيدي ومعها الحق في ذلك لأن الاتفاق تم بين الأطراف الموقعة، وإن أنشطتها تخضع لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية وهي تؤكد سلميتها، فلماذا كل هذا التجييش الأمريكي ضدها؟
الأوروبيون رغم محاولات ترامب الحثيثة لاستمالتهم بعض الشيء، غير مقتنعين بالموقف الأمريكي، لكن أكثر ما يثير الاستهجان والتعجب هو التذبذب في الموقف الأوروبي التائه بين الانصياع للضغط الأمريكي- الإسرائيلي وتداعيات الانسحاب من الاتفاق النووي، على الرغم من الالتزام الإيراني ببنود الاتفاق وتأكيد وكالة الطاقة الذرية على ذلك، فتارة نراهم ينصاعون للموقف الأمريكي ويهرولون وراءه، وأخرى يحذرون من مغبة المضي في النهج الأمريكي الداعي للانسحاب؟ فعلى أي ضفة سيقف الأوروبي؟
وبخلاف الموقف الأمريكي والأوروبي المتذبذب، حذرت كل من روسيا والصين من أي خطوات أحادية الجانب تدفع باتجاه تقويض الاتفاق، ففي بيان مشترك أصدرتاه بعد اختتام أعمال الدورة الثانية لاجتماعات اللجنة التحضيرية لمؤتمر 2020 حول معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، والتي عقدت في جنيف 4 أيار لمناقشة الصفقة بشأن تسوية قضية البرنامج النووي الإيراني أكدتا ضرورة الحفاظ على الاتفاق والالتزام الصارم بمبادئه وقد جاء في البيان.. «يؤكد الاتحاد الروسي وجمهورية الصين الشعبية دعمهما الثابت للتطبيق الكامل والفعال لخطة العمل الشاملة المشتركة بالشكل الذي أقره مجلس الأمن الدولي في القرار 2231 الصادر عام 2015» لأن «التطبيق الصارم لخطة العمل الشاملة المشتركة أسهم بصورة ملموسة في تعزيز الهيكل العالمي لعدم انتشار الأسلحة النووية وأيضاً الأمن الدولي على وجه العموم».. وأعربت روسيا والصين عن قناعتهما بأن إبرام هذا الاتفاق «أظهر بشكل واضح أن المشكلات العالقة في مجال عدم انتشار الأسلحة النووية لا يمكن تسويتها إلا عبر سبل سياسية دبلوماسية بالتوافق مع معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية».
ومن هذا المنطلق نرى موقف روسيا والصين الداعم للاتفاق وكذلك لـ «الدور المحوري والمستقل للوكالة الدولية للطاقة الذرية في ضمان تفقد ومراقبة المواقع النووية في إيران بموجب القرار 2231» المؤيد لدور اللجنة المشتركة التي تم تأسيسها لتنفيذ المهمات المنصوص عليها في الاتفاق النووي مع إيران، واحترام التقارير الدورية الصادرة عن هذه الوكالة التي «تؤكد الالتزام الكامل من قبل إيران بتعهداتها في إطار خطة العمل الشاملة المشتركة».
لذلك، وحسبما يُفهم من البيان الروسي الصيني المشترك، فهو رسالة موجهة لجميع الأطراف المعنية بالاتفاق عموماً، وللولايات المتحدة على وجه الخصوص بأن الضرورة الحيوية تكمن في «تنفيذ جميع الأطراف المشاركة في خطة العمل الشاملة المشتركة تعهداتها في إطار الاتفاق على نحو صارم وكامل، ودعم كل الدول، التي وقعت معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، خطة العمل الشاملة المشتركة، بما في ذلك التخلي عن خطوات قد تقوض تطبيقها».. فهل يلتزم الأمريكي، أم إنه سيمضي باتجاه الضغط لتعديل الاتفاق أو الانسحاب منه إذا لم يتم تعديله وفق هواه؟
الموقف الروسي- الصيني يؤيده ضمناً الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لكنه يعيش حالة من التوتر الكبيرة ناجمة عن توقعات بانسحاب الأمريكي من الاتفاق، ما دفعه لإطلاق تحذيرات لنظيره الأمريكي من أن الانسحاب قد يؤدي إلى نشوب حرب حقيقية، حسب تعبيره، لكنه زعم في الوقت نفسه بأنه «لا يعتقد أن ترامب يريد حرباً»، فإذا كان الأمر كما يشير ماكرون، فماذا يريد ترامب بالضبط؟ ولاسيما أن الأخير هدد بالانسحاب من الاتفاق (في حال عدم تعديله) يوم 12 أيار الجاري، وكان قد أعلن في 12 كانون الثاني الماضي «أنه سيمدد تجميد العقوبات على إيران لـ4 أشهر في إطار الاتفاق النووي معها»، متعهداً بأن هذه المرة ستكون الأخيرة التي يقوم فيها بذلك ما لم يتم تعديل الاتفاق الذي يزعم أن فيها «عيوباً هائلة» وقد انتقدها مراراً وتكراراً في وقت سابق بسبب مزاعم «عدم فرضها قيوداً على البرنامج الصاروخي الإيراني»، مع إن البرنامج الصاروخي لم يكن مشمولاً في إطار الاتفاق الموقع بين الدول الست وإيران، وقد أعلنت هذه الدول الموقعة على الوثيقة في 16 كانون الثاني 2016، إطلاق تنفيذ خطة العمل المشتركة الشاملة، التي تقضي برفع العقوبات المفروضة على إيران بسبب أنشطتها النووية السابقة، مقابل قيام طهران بالحد من نطاق برنامجها النووي ووضعه تحت المراقبة الشاملة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي أكدت مراراً أن الحكومة الإيرانية تلتزم بالاتفاق، فلماذا كل هذا التسعير الأمريكي، ولماذا ينجر الأوروبي وراء الأمريكي لفرض تعديل على الاتفاق ولاسيما أنه يدعي دعم الاتفاق ويؤكد التزام إيران ببنوده؟
الموقف الفرنسي يتطابق مع البريطاني، فبريطانيا وفق ما أكده المتحدث باسم الحكومة البريطانية إدوين صامويل لقناة الميادين «تدعم الاتفاق النووي وأيضاً أجهزة التفتيش والتحقيق»، ورأى أن الانسحاب الأمريكي من الاتفاق ليس من مصلحة أحد، مؤكداً أن «هذا الاتفاق اعتمد على فريق من الأمم المتحدة ولديه قوة وصلاحيات لتفتيش المواقع المعروفة التي تطور فيها إيران برنامجها النووي، ودورها في الاتفاق النووي جذري، ونحن نستخدم كل تأثيرنا وجهودنا كحكومة بريطانية لبقاء هذا الاتفاق».
ولم يتوقف التحذير من الانسحاب الأمريكي من الاتفاق على الدول الموقعة فحسب، بل شمل أيضاً المنظمة الأممية، حيث حث الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الأطراف الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة إلى الالتزام بالاتفاق الذي عدّه «انتصاراً دبلوماسياً بالغ الأهمية ولابد من الحفاظ عليه» وحذر من إلغائه أو الانسحاب منه لأن أي خطوة كهذه قد تؤدي بنظره إلى «حرب جديدة».
ولكن، إذا كان الموقف الأوروبي يدعم الاتفاق كما يزعم مسؤولوه، فلماذا يطلقون تصريحات متناقضة بين الفينة والأخرى؟ ولنتساءل أيضاً في ظل الموقف الأوروبي المزدوج بخصوص الاتفاق وفي حال الانسحاب الأمريكي، هل يمكن لإيران أن تدخل في أي اتفاق آخر؟ وهذا مستبعد، ولكن لو افترضنا أن إيران قبلت بذلك، فما ضمانات عدم تغيير الإدارات الأمريكية اللاحقة موقفها من الاتفاقات المبرمة السابقة؟ وإذا كان الرئيس الأمريكي يعتقد بضمان عدم حصول إيران على سلاح نووي مطلقاً، فلماذا يهدد ويتوعد؟ ولماذا يقف الشركاء الأوروبيون في صفه مع زعمهم تأييد الاتفاق؟
إيران أكدت بدورها ثبات موقفها في وجه البلطجة الأمريكية، وأكدت على لسان مسؤوليها أنها لن تتفاوض على الاتفاق النووي وترفض أي تعديل عليه، وهي مستعدة لكل الخيارات وهذا ما أكده الرئيس الإيراني حسن روحاني بقوله: «توجد لدى بلاده استراتيجية كاملة إزاء أي قرار قد تتخذه واشنطن بشأن الاتفاق النووي، وإن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي سيجعلها تندم تاريخياً» مشيراً إلى أنه «لدى الأمريكيين 3 خيارات إزاء الاتفاق النووي، إما أن ينسحبوا منه، أو أن يوجهوا له ضربة، أو أن ينفصل مسارهم عن مسار الأوروبيين».
كما أوضحت طهران على لسان وزير خارجيتها جواد ظريف أن الاتفاق «لم يكن معاهدة تستلزم توقيع أو تأييد أي جانب، بل هو ملزم للجميع عقب تأييده من قبل مجلس الأمن الدولي، وأن الوكالة الدولية للطاقة الذرية أكدت 11 مرة التزام طهران بالتعهدات المترتبة عليها بموجب الاتفاق» واتهم الولايات المتحدة بالتنصل من مسؤولياتها، بوضعها عراقيل في طريق من يسعون إلى تطوير التعاون التجاري مع إيران، ودعا واشنطن للكف عن انتهاك الاتفاق والبدء بالوفاء بالتزاماتها بموجب الاتفاق والابتعاد عن تخويف الآخرين لمنع الشركات من العودة إلى إيران.
وتوعدت إيران الولايات المتحدة بأن أي انتهاك للاتفاق النووي أو انسحابها منه لن يبقى من دون رد، وأن الضجيج أو التهديد لن يحقق لواشنطن اتفاقاً جديداً، وخاصة عندما لا يحترم الأمريكيون ما اتفق عليه، كما انتقد ظريف وعود الدول الأوروبية في إقناع الرئيس الأمريكي ترامب بعدم الانسحاب من الاتفاق.
«إسرائيل» التي تؤرقها قوة إيران الصاعدة على الصعيدين الإقليمي والدولي، لم تتوقف عن اللعب بالنار وصبت الزيت عليها من خلال مسرحيتها الأخيرة وادعاءاتها الكاذبة على لسان رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو ومزاعمه عما سماه «ملفات سرية نووية».
الانتقاد الواسع لمسرحية نتنياهو جاء من داخل «إسرائيل» كما قوبلت أيضاً برد روسي، حيث أكدت روسيا ضرورة الاستناد إلى بيانات مؤكدة دولياً، لا إلى مزاعم، وجاء هذا الرد على لسان المتحدثة باسم خارجيتها ماريا زاخاروفا بقولها: «إن موسكو ترى أنه من غير المقبول استبدال الآليات الموجودة في مجال ضمانات وتفتيشات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي سبق أن أثبتت فعاليتها، بمزاعم مختلفة غير مؤكدة منتشرة للأسف بكثافة في وسائل الإعلام اليوم» وشددت على أنه «ينبغي أن تحل جميع المسائل المتعلقة بتفتيشات الوكالة الدولية للطاقة الذرية في إيران ضمن إطار آليات الوكالة حصراً، ولا يمكن بحث القضايا المرتبطة بتطبيق خطة العمل الشاملة المشتركة إلا بين أعضاء اللجنة المشتركة التي تجمع السداسية الدولية وإيران» وأشارت إلى أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية قررت إغلاق الملف المتعلق بمزاعم وجود عناصر عسكرية في برنامج إيران النووي في 15 كانون الأول عام 2015، وأكدت التزام موسكو بمسؤولياتها حسب الاتفاق النووي مادامت تتمسك به الأطراف الأخرى.
روسيا لم تقنعها مسرحية نتنياهو بضرورة إعادة النظر في اتفاق إيران النووي، ولم تقنع الأوروبيين أيضاً. فإذا كانت هذه المسرحية أثارت موجة من الردود في المنطقة وخارجها مؤكدة كذب نتنياهو في محاولة للتأثير على قرار الرئيس الأمريكي ترامب، فأي مصير ينتظر الاتفاق في ظل التصعيد الأمريكي- الإسرائيلي والازدواجية الأوروبية؟